
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي بعث فينا نبيًّا كريمًا ليتمم مكارم الأخلاق، وجعل حُسن الخلق من كمال الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102).
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
أما بعد: أيها المسلمون:
نظرة سريعة في واقعنا تكشف عن أزمة أخلاقية مؤلمة، نعيشها ونراها في مجتمعاتنا وطرقاتنا وبيوتنا وفي معاملاتنا اليومية، وكأننا قد نسينا أو تناسينا أن الأخلاق في ديننا ليست أمرًا ثانويًا، بل هي من جوهر هذا الدين، وقوام الحياة، وسرّ نهوض المجتمعات وسعادتها.
لقد جاء هذا الدين العظيم، ليكون نورَ هدايةٍ للبشرية، يرشدها إلى الحق، ويرتقي بها إلى مراتب الفضيلة والأخلاق.
جاء الإسلام ليصنع الإنسان الربانيّ في روحه وسلوكه وأخلاقه، ليصنع منه روحًا تسمو، ونفسًا تزكو، وقلبًا ينبض بالرحمة، ولسانًا لا ينطق إلا صدقًا، وجوارح لا تتحرك إلا في طاعة الله ومحبة الخير للناس والإحسان إليهم، وجعل مكارم الأخلاق من أعظم مقاصده، فدعا إلى الصدق، والأمانة، والعدل، والحياء، والرحمة، ونهى عن الكذب، والخيانة، والظلم، والكِبر، والبغضاء..
فالأخلاق كانت دائمًا سرّ سعادة الأمم، وعنوان عزّها وقوتها
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا كانت الأخلاق هي عنوان بقاء الأمم، وسرّ عزّتها، فإن هذا المعنى يتجلى أعظم ما يتجلى في الإسلام، الذي أوْلى الأخلاق مكانة لا تضاهَى، ورفع من شأنها.
فالأخلاق في الإسلام تزيل الفوارق المصطنعة بين البشر، وتؤسس لمجتمع تسوده العدالة والمساواة والتراحم، لا فضل فيه لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لغني على فقير، ميزان الحق والتفاضل فيه هو التقوى والعمل الصالح، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13).
والمجتمع الإسلامي الحقيقي، هو مجتمع الأخلاق الفاضلة، يسعى فيه الغني بماله إلى الفقير، ويساعد فيه القوي الضعيف، ويوقر فيه الصغير الكبير، ويرحم فيه الكبير الصغير، فيسود فيه المحبة والإخاء، ويعمّه الأمن والأمان..
ولأجل ذلك، جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأخلاق من غايات بعثته، فقال: (إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق) رواه أحمد. ولم يكتفِ بذلك صلى الله عليه وسلم، بل جعل حُسن الخُلق سببًا لمحبته والقرب منه في الجنة، فقال: (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسِنَكم أخلاقًا) رواه الترمذي.
ألا ترون، يا عباد الله، كيف رفع الإسلام من قيمة الأخلاق؟
في هذه النصوص حُجةٌ ساطعة على أن رسالة الإسلام لم تأتِ فقط لتُعلّم الناس كيف يُصلّون ويصومون، بل جاءت لتُقيم صرح الفضيلة، وتُرسي قواعد الخُلق الحسن، وتُهذّب السلوك، وتُطهّر القلوب..
وإذا كانت الأخلاق -عباد الله- هي لبّ رسالة الإسلام، ومن أهم غايته الكبرى، فليس غريبًا أن يكون أول الداعين إليها ـ بفعله وقوله ـ هو أعظم الناس خُلقًا، وأكملهم أدبًا، وأرفعهم قدرًا وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد نشأ صلى الله عليه وسلم من أول أمره إلى آخر لحظة من لحظات حياته متحلياً بكل خلق كريم، مبتعداً عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأفصحهم لساناً، يُضرب به المثل في الأمانة والصدق، حتى قبل بعثته، فلقّبه قومه بـ"الصادق الأمين"، وكان أرجح الناس عقلاً، وأكثرهم أدباً، وأوفرهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأكثرهم حياء، وأوسعهم رحمة وشفقة، وأكرمهم نفساً، وأعلاهم منزلة..
وبالجملة فكل خلق محمود فله صلى الله عليه وسلم منه القسط الأكبر، والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه، شهد له بذلك القاصي والداني، والعدو والصديق، ويكفيه شهادة ربه عز وجل له بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، وقد سُئِلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن) رواه مسلم.
نعم، أيها الأحبة، لقد كان صلى الله عليه وسلم تطبيقًا عمليًا لكل خلق عظيم، وكانت حياته بأسرها تجسيدًا لما يدعو إليه من المكارم والشمائل.
وكما كانت سيرته ومواقفه العملية، نبراساً في الأخلاق، فقد كثرت أحاديثه بالإشادة بمكارم الأخلاق، ومكانة أهلها، وعظيم ثوابها.
فقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين كمال الإيمان وكمال الخلق، فقال: (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم أخلاقًا) رواه الترمذي.
وقال: (البر حُسن الخلق) رواه مسلم، (إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً) رواه البخاري.
وقال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) رواه الترمذي، (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) رواه أبو داود.
وأقسم صلى الله عليه وسلم بالضمان للجنة لمن يتحلى بحسن الخلق، فقال: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في أعلى الجنَّةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه) رواه أبو داود.
وسُئِل عن أحَبُّ عِبادِ اللهِ إلى اللهِ، فقال: (أحسَنُهم خُلُقًا) رواه ابن ماجه.
وأخبرنا عن أحب الناس إليه فقال: (إنَّ من أحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحسنَكم أخلاقًا) رواه الترمذي.
وأمرنا بمعاملة الناس بقوله: (وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسنٍ) رواه الترمذي.
ولما سُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: (تقوى الله، وحسن الخلق) رواه الترمذي.
وأخبرنا عن أعظم ما يثقل به المرء ميزانه يوم القيامة فقال: (ما من شَيءٍ أثقَلُ في الميزانِ من حُسنِ الخُلُقِ) رواه الترمذي.
وإذا كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو القدوة العظمى في الأخلاق، فإن أصحابه وخيار هذه الأمة كانوا على أثره سائرين، وبسنّته مهتدين، فكانوا تطبيقا عمليا لأخلاق الإسلام، في البيوت والأسواق، في المساجد والطرقات، وفي شوون الحياة كلها، ولم تكن الأخلاق عندهم شعارات تُرفع، بل سلوكيات تُرى وتُعاش: صدقٌ في الحديث، حفظ وأداء للأمانات، تواضعٌ رغم الفضل، كرم رغم القلّة، رحمة رغم القوّة، لين جانب مع الغريب والقريب، فحازوا بها القلوب، وفتحوا بها البلاد..
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "كان الناس يتعلّمون الأدب قبل العلم"، وهذا هو الميزان الصحيح، فالعلم بلا خلقٍ ولا أدب، قد يكون وبالًا على صاحبه، وأذىً على غيره.
وقال عبد الله بن المبارك: "حسن الخلق في ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال".
وسُئل الحسن البصري عن حسن الخلق، فقال: "بَسط الوجه، وبذل الندى، وكفّ الأذى".
وقالوا في علامات صاحب الخلق الحسن: "أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً، وَصولاً، وقوراً، صبوراً، شكوراً، رضياً، حليماً، وفياً، عفيفاً، مؤْثِراً، لا لعاناً، ولا طعاناً، لا مناناً، ولا مغتاباً، لا كذاباً، ولا غاشاً، ولا خائناً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا حسوداً، ولا بخيلاً، ولا متكبراً، هاشاً، باشاً، يحب في الله، ويبغض في الله، حكيماً في الأمور، قوياً في الحق"..
لقد كانت الأخلاق عند سلفنا الصالح عبادة وسلوكًا وأسلوب حياة، فهل نعيدها اليوم لتكون كذلك في بيوتنا ومجتمعاتنا؟!!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
أما بعد أيها المسلمون: إذا كانت هذه هي منزلة الأخلاق في ديننا وفي حياة سلفنا، فكم يؤلم القلب أن نقارنها بواقعنا اليوم! حيث الفرق الكبير والهوة الواسعة بين أخلاق ديننا، وما آل إليه حالنا!
إن الواقع يبعث على الأسى، فقد ابتعد بعض الناس ـ رجالًا ونساء، شبابًا وشيوخا ـ عن الأخلاق، وفي الوقت ذاته نشط أعداء الإسلام في إفساد مجتمعات المسلمين وأخلاقهم، بوسائل كثيرة ومتعددة الناس حتى كثر الفساد، وانتشرت المنكرات، وساد سوء الخلق، وقلّ الحياء، وتبدّلت المفاهيم في سلوك كثيرٍ من الناس..
وختاما، يا أمة الإسلام:
هل من عودة؟
هل من يقظة توقظ القلوب الغافلة، وتبعث فينا الحياة من جديد؟
هل من رجعة إلى مُثل الإسلام وأخلاقه العليا؟ والبعد عن سفاسف الأمور ورذائل الأخلاق ؟
هل من نية صادقة، وعزمٍ أكيد على أن نعود في حياتنا وبيوتنا لأخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم؟ وأن نربي عليها أبناءنا وبناتنا وأسرنا .
هل من عودة صادقة، لا ادّعاء فيها، بل التزام حقيقي عمليّ، يجعل من الأخلاق النبوية نبراسًا لحياتنا وتعاملاتنا؟
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أعذنا من منكرات الأخلاق، والأقوال والأعمال والأهواء، إنك سميع قريب مجيب الدعاء..