إن مع العُسْر يسرا

16/11/2025| إسلام ويب

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداًً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)..
أما بعد: أيها المسلمون:

الحمد لله الذي جعل بعد العسر يسراً، وبعد الضيق فرجاً، نحمده سبحانه في السراء والضراء، ونشكره في النعمة والبلاء، ونستعينه في الشدة والرخاء، فهو وحده المفرِّج للكرب، الكاشف للضر، الغفور الرحيم..
حديثنا اليوم عن باب من أبواب الإيمان العظيمة، لا يعرفه ولا يعيش معانيه إلا من ذاق حلاوة الإيمان، واستضاء بنور الصبر والرضا، إنه موضوع اليقين بأن الله مفرّج الكروب، ورافع الهموم، حديث عن البلسم الرباني الذي يسكب في القلوب الطمأنينة، ويبدّد ظلمات الهم، ويفتح أبواب الأمل والرجاء، قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(النمل:62)، فمن ذا الذي يجيب المضطر إذا لجأ إليه؟ ومن ذا الذي يفرّج الهمّ والكرب إذا رفع العبد يديه؟ إنه الله وحده، أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، لا ملجأ منه إلا إليه، قال تعالى: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً}(الشرح:7:6). قال ابن القيم: "فالعُسر - وإن تكرر مرتين - فتكرر بلفظ المعرفة، فهو واحد، واليُسْر تكرر بلفظ النكرة، فهو يُسران، فالعسر محفوف بيسرين، يُسْر قبله، ويسر بعده، فلن يغلب عسر يسرين".. ولذلك كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي عبيدة رضي الله عنه قائلاً: "مهما ينزل بامرءٍ مِنْ شدةٍ يجعل الله له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عُسْرٌ يسرين"..

فإذا ضاق بك الهمّ، واشتد عليك الكرب، فتذكّر أن هذا طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وطريق الصالحين من بعدهم، تتابعت عليهم الشدائد، ثم جاء فرج الله بعد ذلك .
هذا يوسف عليه الصلاة والسلام، يُلقيه إخوته في البئر، ثم يُتَّهَم وهو العفيف المعصوم، ومع ظهور براءته يُلْقَى في السجن، ثم تشرق شمس الفرج عليه، فيُخرجه الله من ظلمة السجن إلى مُلك مصر، ويجمعه بأهله بعد طول فراق..
يعقوب عليه الصلاة والسلام، طال حزنه حتى ذهبت عيناه من البكاء، فما زال صابرًا محتسبًا حتى فرَّج الله عنه وردّ عليه بصره، وجمع شمله بأبنائه في فرح وفرج ورحمة..
يونس عليه الصلاة والسلام يُلقيه الموج في ظلمات البحر، فيبتلعه الحوت، ليغدو في ظلماتٍ ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، لا يسمع صوته أحدٌ من الخَلق، ولكن الله الخالق سمع دعاءه، فأجابه ولطف به ونجاه، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}(الأنبياء:88:87).
نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم، كم لاقى من شدائدٍ وابتلاءات، فكان خير من ابتُلي فصبر، وأُوذي فغفر، وضُيّق عليه فاحتسب، خرج من مكة بلده التي أحبَّها مطرودًا، وتآمرت قريش على قتله، وأُوذي في الطائف حتى أدموا قدميه، وحُوصر في شعب أبي طالب ثلاث سنين حتى أكل الصحابة معه ورق الشجر من شدة الجوع، وكُذِّب في دعوته، وسُبّ علانيةً، ورُمِيَ بالسحر والجنون، وهو الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان صابرا راضيا، ولسانه لا يفتر عن الدعاء، يقول بثباتٍ ورضًا: (إن لم يَكُن بِكَ غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غيرَ أنَّ عافيتَكَ هيَ أوسعُ لي) رواه الطبراني، فصار بعد الكرب فرجًا وفتحًا ونصرا مبينًا من الله..

وهذه أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أحبُّ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وابنةُ الصدِّيق أبي بكر رضي الله عنه، وأعلمُ نساء الأمة بكتاب ربها وسنّة نبيها، طاهرةٌ مطهّرةٌ من فوق سبع سماوات، نزل بها البلاء العظيم حين اتُّهمت زورًا وبهتانًا، فاهتزت المدينة المنورة كلها لذلك الإفك المبين، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وامتلأت عيناها دمعًا، وقلبها ألمًا، حتى جاءها فرج الله ونزلت براءتها بآياتٍ قرآنية تُتلى إلى قيام الساعة، تبرئها وتُظهر مكانتها، وترفع قدرها في الدنيا والآخرة، فكانت قصتها درسًا خالدًا في الصبر والرضا والثقة بوعد الله وفرجه، ودليلًا على أن مَنْ صَدَقَ مع الله فرّج الله كربه ولو بعد حين..

وقد قصَّ الله علينا قصة ثلاثة من الصحابة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، أولئك الصفوة الذين صدقوا في إيمانهم، ولكنّهم تأخروا عن الخروج للجهاد بلا عذرٍ مقبول، فابتلاهم الله بابتلاءٍ عظيم، إذْ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وهجرهم الناس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى صاروا غرباء في ديارهم، لا يُكَلَّمون ولا يُسَلَّم عليهم.. ومع كل ذلك ثبتوا على الإيمان والصدق، ولم يلجؤوا إلى الكذب والاعتذار الباطل، فكانت توبتهم خالصةً لله، حتى نزل فرج الله من فوق سبع سماوات: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}(التوبة:118)، فمن صدق في توبته، ورضي بقضاء ربه، جعل الله له بعد الشدة فرجًا، وبعد الضيق مخرجًا، ولطفه سبحانه لا ينقطع عن عباده الصادقين..
فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف أن كل كربةٍ مهما عظُمت، فإن وراءها ـ بالصبر والرضا والتقوى والدعاء ـ فرجاً قريباً، وأن رحمة الله إذا نزلت أزالت كل همٍّ وغُمّة، فسبحان من يقول للشيء "كن" فيكون، وسبحان من لا يردّ داعياً ولا يخيّب راجياً..

عباد الله.. 
تلكم هي بعض صور الفرج بعد الكرب من حياة الأنبياء والصالحين، فلنتأمل معاً حكمة الشدائد التي قد تبدو للنفس مؤلمة، لكنها في حقيقتها رحمة، ورفعة في الدرجات، فرُب بلاء ظنه العبد شرًّا، فإذا فيه الخير كله، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَا) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ) رواه الترمذي.
والبلاء ـ مع ما فيه من أجر وثواب عظيم ـ يعيد القلب والعبد إلى ربه خاشعًا منكسراً، يعترف بفقره وضعفه وحاجته، فيتطهّر قلبه من التعلّق بالمخلوقين، ويتوجّه صادقًا إلى رب العالمين، فتتجلّى فيه معاني التوحيد وصدق الإيمان..
فالشدائد، رغم مرارتها، هي جسر يعبر به العبد إلى رضوان الله، بصبره على البلاء، ورضاه بالقضاء، وكثرته من الدعاء، ومسارعته إلى التوبة والرجوع إلى الله..

وقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إلى كثير من الأدعية نقولها إذا نزل بنا الكرب، واشتدت الأمور، ومن ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ عِنْدَ الكَرْب: (لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ، لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ ورَبُّ الأرْضِ، ورَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) رواه البخاري، (وكانَ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا كربَهُ أمرٌ قالَ: يا حيُّ يا قيُّومُ برَحمتِكَ أستغيثُ) رواه الترمذي.
وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوةُ ذي النون إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له) رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أصاب أحدَكم غمٌّ أو كَربٌ فليقُلِ: اللهُ، اللهُ ربِّي لا أُشرِكُ به شيئًا) رواه ابن حبان.
فما أرحم الله بعباده، وما أعظم كرمه وفضله عليهم،  يبتليهم ليطهّرهم ويقرّبهم، ويخفي في البلاء لطفًا لا يُدرَك بالعقول:
وكمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ   يَدُقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وكمْ يَسَرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ وَفَرَجِ لَوْعَةِ الْقَلْبِ الشَّدِيِّ
وكمْ هَمٍّ تَسَاءَلَ بِهِ صَبَاحًا    فَتَعَقَّبَهُ الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِيِّ
إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الْأَسْبَابُ يَوْمًافَثِقْ بِالْوَاحِدِ الْأَحَدِ الْعَلِيِّ
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، المنعم على عباده بأفضاله، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم..
أما بعد:

إلى كل من يمر بلحظات الضيق والشدة والابتلاء في حياته: ثق بالله، واصبر على البلاء، وكن راضياً بقضاء الله، فإن الفرج قريب لا محالة، وإن مع العسر يسراً..
يا مَنْ حلت به المصائب والشدائد، وعصفت به الصعاب والملمات، لا تيأس، فإن الصبر والتقوى من مفاتيح الفرج، وسيفرج الله همك، ويبدل ضيقتك مخرجاً واسعاً..قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}(الطلاق:3:2).
أيها الشاب العفيف، الصابر على فتنة الشهوات، استعن بربك، وثبت قلبك، وتمسك بالعفة والصبر، فإن الله مع المحسنين، ولن يخذل عبدًا لجأ إليه وتحلى بتقواه..

وأخيرًا إلى كل من وقع في شدة وبلاء، تذكَّر قصة يونُس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت، كيف نجاه الله، وأيوب عليه الصلاة والسلام الذي ابتلاه الله في ماله وولده، وصحته وجسده، فصبر على ذلك صبراً جميلاً، فأثابه الله وأجاب دعاءه، وفرَّج عنه، وأعاد إليه أهله وماله وصحته.. فثق بالله، وارفع يديك إليه، ولا تيأس، فإنما هي أيام تمر وتنقضي، وفرج الله قريب، وأجره عظيم، وهو أرحم الراحمين، وهو القائل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(الشرح: 5-6).
فكن صابرا راضيا، وأكثر من دعاء الله، فإنه لا يخيّب مَنْ رجاه، ولا يرد مَنْ لجأ إليه ودعاه..

هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56).
 

www.islamweb.net