
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران:102)، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..
ثم أما بعد، أيها المسلمون:
الإسلام هو الدين الخاتَم الذي أتمّ الله به الرسالات السماوية، ليُكمل رسالة التوحيد ويكون منهاجاً شاملاً للبشرية إلى يوم القيامة: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}(المائدة:3). وشريعة الإسلام، خاتمة الشرائع، أنزلها الله رحمة للعالمين، للناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، للذكر والأنثى، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والعالم والجاهل، والصحيح والمريض، ومن تمام حكمة الله ورحمته أنها جاءت ميسورة الفهم، سهلة التطبيق، صالحة لكل زمان ومكان، تستوعب الناس جميعاً..
ففي الإسلام ـ بعقائده وعباداته وأحكامه وتشريعاته ـ رخصٌ بعد عزائم، ولينٌ بلا شدة، ويسرٌ بلا عسر، ورفعٌ للحرج والعنت .
والتيسير في الإسلام مقصد هام من مقاصده، وهو ظاهرٌ في العبادات والأحكام والأخلاق والمعاملات، فالله سبحانه لم يكلّف عباده المشقّة، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة:185)، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً}(النساء:28)، وقال عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(الحج:78)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وبَشِّرُوا، ولا تُنَفِّرُوا) رواه البخاري.
واليُسر والتيسير في الإسلام، ليس شعاراً نظرياً، بل هو منهج حياة، يراه ويشعر به المسلم في عباداته، وفي معاملاته، وفي حياته، وفي سيره إلى الله.. واليُسر: هو كل أمرٍ لا يجهد النفس ولا يرهق الجسد، أما العُسر فهو ما شقّ على الإنسان حتى يوقعه في الحرج والضيق النفسي والبدني، ولهذا جاء التوجيه النبوي ليؤكّد هذا الأصل وهو التيسير فقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ خيرَ دِينِكُمْ أيسَرُه، إنَّ خيرَ دِينِكُمْ أيسَرُه، إنَّ خيرَ دِينِكُمْ أيسَرُه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم أُمَّةٌ أُريدَ بكم اليُسرُ) رواه أحمد. وقال إبراهيم النَّخَعيّ: "إذا تخالجك أمران، فإن أحبهما إلى الله أيسرهما"، وقال الإمام الشَّعْبيّ: "إذا اختلف عليك أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الله، يقول سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة:185).
ومعالم اليُسر والتيسير في الإسلام ظاهرة بيّنة، تشهد بها نصوص الوحي، ويجسدها عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، وهي معالم تشمل العبادات والمعاملات، وتظهر في القرآن الكريم وفي السُنة النبوية، وفي كل تشريعٍ وحُكم من التشريعات والأحكام، وإليكم بعض الصور والأمثلة:
أولا: اليُسر في كتاب الله: فقد أنزل الله كتابه العزيز ميسَّر التلاوة، ميسَّر الفهم، ميسّر العمل، وللقلوب ترقّ له، يُستمتع بتلاوته ولا يُمل سماعه، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}(القمر:17).
ثانيا: نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بعثه الله رحمة للعالمين، وبعثه باليسر والتيسير، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، حريص عليهم، عزيز عليه ما يشق عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يبين للناس الدين بيسره وتيسيره بعمله مع قوله، ولذلك لما أراد ثلاثة من الصحابة أن يشقوا على أنفسهم للتفرغ للعبادة، فعزم أحَدُهم على الصلاة باللَّيلِ أبدًا دون انقِطاعٍ، والثَّاني: على صيامِ الدَّهرِ وألَّا يُفطِرَ، والثَّالِثُ: ألَّا يتزوَّجَ أبدًا، قال لهم صلى الله عليه وسلم: (أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي) رواه البخاري.
ثالثا: اليُسر في العقائد، فإننا نرى أصول الإيمان جاءت واضحةً، ميسَّرة في فهمها، فالإيمان بالله تعالى، وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والإيمان باليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، كل ذلك من معاني العقيدة والإيمان وغيره جاء بيّنًا جليًّا، سهلا نقيا، متوافقا مع الفِطَر السليمة والعقول الصحيحة، ليس فيه فلسفة ولا غموض، ولا جدال ولا تكلف ولا تعقيد، وهذا هو منهج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سار على نهجهم من السلف الصالح، إذ لم يكونوا أهل تكلّف ولا أصحاب جدلٍ أو كثرة سؤال أو اختلاف، بل كانوا يأخذون الدين بعفوية وسلامة الفطرة، وصدق الاتباع، وبساطة الإيمان، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه محذرًا: "إيّاكم والتنطُّعَ، وعليكم بالعتيق"، أي الزموا الطريق القديم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، طريق اليسر والسماحة، وابتعدوا عن التكلف والغلو..
عباد الله: وأما اليُسر في العبادات والأحكام الشرعية: فإنك إذا تأملتَ شريعة الله وجدت أنها تراعي أحوال المُكَلَّفين وظروفهم وتقلبات حياتهم، من صحة ومرض، وغِنى وفقر، وإقامة وسفر، وحاجة واضطرار، فتخفيفٌ هنا، ورخصةٌ هناك، ودين الله بين ذلك رحمةٌ وسماحة..
ففي الطهارة، وُضعت قواعد تمنع الحرج والمشقة، فإن شقّ استعمال الماء لمرض أو غيره انتقل المسلم إلى التيمم.
وانظر إلى أعظم العبادات وأجلِّها بعد التوحيد: الصلاة، كيف جُعلت أوقاتها معلّقة بآيات كونية يشاهدها كل أحد، بطلوع الفجر، وزوال الشمس، وغروب النهار، وجُعلت القِبْلة للناس في أي مكان وزمان يسيرة "فما بين المشرق والمغرب قبلة"، وجُعِلت لنا الأرضُ مسجدًا وطَهورًا، وهذا مِمَّا خُصَّتْ به هذه الأُمَّة، فمتى أدركَتِ الرَّجُلَ الصَّلاةُ فإنَّه يُصلِّي في المكانِ الَّذي تُدرِكُه فيه، وإنْ لم يَجِدِ الماءَ فإنَّه يَتيمَّم، ويُشرع الجمع بين صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء عند الحاجة، ويقصر المسافر الرباعية إلى ركعتين، ويصلي المسلم قائمًا، فإن عجز فقاعدًا، فإن عجز فعلى جنب، رفعٌ للحرج والمشقة وتحقيقٌ للقاعدة الكبرى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}(البقرة:286).
وذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأةٌ تكثر من النوافل، فقال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بما تطيقون، فوالله لا يَمَلُّ الله حتى تملّوا) رواه البخاري، وأرشد الأئمة فقال: (إذا أمَّ أحَدُكُمُ النَّاسَ، فَلْيُخَفِّفْ، فإنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ، والْكَبِيرَ، والضَّعِيفَ، والْمَرِيضَ، فإذا صَلَّى وحْدَهُ فَلْيُصَلِّ كيفَ شاءَ) رواه مسلم.
وهذا اليُسر يتجلى كذلك في صيام رمضان، فهو فرض على الصحيح المقيم، أما المريض والمسافر فقد رُخِّص لهما الإفطار، ثم القضاء بعد ذلك، عملا بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(البقرة:185).
ولا زكاة، ولا حج، ولا جهاد إلا على القادر المستطيع، إذ التكليف مرتبط بالاستطاعة.
والمرأة لها أحكام تناسب طبيعتها، تراعي ضعفها وتغير أحوالها، والقلم مرفوع عن المجنون والصبي والنائم، ورُفع عن الأمة الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه.
والأصل في الأشياء الحِل والطهارة، والقاعدة الشرعية "المشقة تجلب التيسير"، وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}(البقرة:173).
والمقصود من العبادات والطاعات استقامة النفس، والمحافظة عليها من الانحراف والاعوجاج، وليس المقصود الاستقصاء ولا الإحصاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اسْتقيموا ولن تُحصوا) رواه ابن ماجه، وقال: (خُذُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ، فإنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا، وإنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إلى اللَّهِ ما دَامَ وإنْ قَلَّ) رواه البخاري.
وقد شرع لنا ديننا من الطاعات ما تقبل عليه النفوس بطبعها، بل مما تنشرح به صدورها، من العيدين والجمعة، وأخذ الزينة والتجمل بالثياب والطيب، والتغني بالقرآن، وحسن الصوت بالأذان، قال الله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(الأعراف:31-32).
ثم انظر إلى عدل الله وعفوه وفضله وإحسانه: السيئة بمثلها وقد يعفو ربك ويغفر، والحسنة بعشر أمثالها ويُضاعف الله لمن يشاء، ومهما فعل الإنسان من ذنوب، فباب التوبة مفتوح لا يغلق حتى يغرغر العبد قبيل موته..
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، أيها المسلمون:
شريعة الله قائمة على اليسر والسماحة، وميادين اليسر لا تقع تحت حصر، ويتأكد اليسر والتيسير في المعاملات والحقوق المالية، من مهرٍ ونفقةٍ ودَينٍ ومعاملة، فالرفق بالناس وتخفيف المشقة عنهم سبب لرحمة الله وتيسيره في الدنيا والآخرة..
ويشمل اليسر والتيسير التعامل مع العمال والأُجراء ومن تحت المسؤولية، فلا يُكلَّفون ما لا يطيقون، مع قبول الأعذار والتجاوز عن الزلات، ومَنْ يسر على معسرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفس عن مسلمٍ كربةً نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله.
وعلى الآباء والأمهات والأزواج وكل مسؤول، التعامل برفق ولين، ويسر وتيسير، مع مَن هم تحت رعايتهم وأيديهم، وليعفوا وليصفحوا، متذكرين قول الله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}(النور:22)، فَتَجَاوَزُوا عن الزلات، وَاقْبَلُوا الأعذار، وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَادْفَعُوا بالحسنى، ولا تنفروا ولا تشددوا، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}(آل عمران:159).
عباد الله: التيسير لا يعني التساهل في الدين ـ عقيدةً وعبادة، وأحكاماً وأخلاقاً ـ، أو التهاون في التربية أو ترك الأبناء نهبًا للانحراف واللهو المحرم، بحجة التحضر وتغير الزمان، والتيسير على الأولاد والبعد عن التعقيد..
ولا يعني كذلك التيسير التنازل عن ثوابت الإسلام بحجة مسايَرة العصر، أو التفريط في أصول الدين بدعوى التجديد والانفتاح، أو التهاون بالسنة النبوية، أو التهوين من شأن الصلاة الواجبة، والجرأة على المعاصي والمجاهرة بالمنكرات، فقد كانَ نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّ التَّيسيرَ في كلِّ الأُمورِ، ومع ذلكَ فإنَّه كانَ وَقَّافًا عندَ حُدودِ اللهِ ومَحارمِه، وتصفه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: (ما خُيِّرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه، واللَّهِ ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ قَطُّ، حتَّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ) رواه البخاري.
ألا فاتقوا الله، وتمسكوا بدينكم وسنة نبيكم، ويسروا ولا تعسروا، فإنما بعثتم ميسرين، وسددوا وقاربوا..
هذا وصلوا وسلموا على السراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}(الأحزاب:56).