المطر نعمة من نعم الله تعالى، وآية من آيات القدرة والوحدانية، وهو منحة من الله لخلقه يحيي بها البلاد، ويسقي بها العباد، وينفع بها الحاضر والباد، فينبت به الزرع، ويملأ به الضرع، ويحل الخير على البلاد والعباد.
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم في أوقات المطر سنن يفعلها عليه الصلاة والسلام؛ يشكر بها لله نعمته، ويخاف من الله تبارك وتعالى غضبته وسطوته، ويعلم بها أمته وأتباع شريعته ما يفعلون عند المطر.. فمن ذلك:
أولا: سؤال الله خير الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به
فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ ما فِيهَا، وَخَيْرَ ما أُرْسِلَتْ به، وَأَعُوذُ بكَ مِن شَرِّهَا، وَشَرِّ ما فِيهَا، وَشَرِّ ما أُرْسِلَتْ به، قالَتْ: وإذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عنْه، فَعَرَفْتُ ذلكَ في وَجْهِهِ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقالَ: لَعَلَّهُ، يا عَائِشَةُ كما قالَ قَوْمُ عَادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالوا هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24].
ثانيا: قول "اللهم اجعله صيبا نافعا هنيئا"
فقد روى النسائي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ كانَ إذا أُمْطِرَ، قالَ: اللَّهمَّ اجعَلهُ صيِّبًا نافعًا). وفي رواية في مسند أحمد وسنن ابن ماجة: (كان إذا رأى المطرَ قال اللهمَّ اجعلْهُ صيبًا هنيئًا)..
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سأل ربه الغيث سأله غيثا نافعا غير ضار، عاجلا غير آجل..
ففي المسند وصحيح أبي داود، عن جابر بن عبد الله قال: (أتتِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ بواكي، فقالَ: اللَّهمَّ اسقِنا غيثًا مغيثًا، مريئًا مريعًا، نافعًا غيرَ ضارٍّ، عاجلًا غيرَ آجلٍ.. قالَ فأطبقت عليْهمُ السَّماءُ) بواكي: يعني نساء يبكين قلة المطر.
ثالثا: التعرض للمطر
لأنه ماء مبارك طهور قريب عهد بالله عز وجل، كما أخبر سبحانه عنه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}[ق:9]، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}[الفرقان:]
فكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا نزل المطر أن يتعرض له، فيحسر عن ثوبه ليصيب الماء بدنه ورأسه وجسده، قال أنسٍ رضيَ الله عنهُ: (أَصَابَنا ونحنُ مَعَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مَطَرٌ، قالَ: فَحَسَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ثَوْبَهُ، حتى أَصابَهُ منَ الْمَطَرِ، فقُلْنا: يا رسولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هذا؟ قالَ: لأنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ برَبِّهِ تعالى)[رواه مسلم]. قال النوويُّ: "ومعناه: أنَّ الْمَطَرَ رَحْمَةٌ، وهيَ قَرِيبَةُ العهدِ بخلْقِ اللهِ تعالى لَهَا فيُتَبَرَّكُ بهَا"..
وبوب البخاري في صحيحه (بابُ مَن تَمَطَّرَ في المطَرِ حتى يَتَحادَرَ على لحيَتِهِ).
واستحب الفقهاء ذلك، كما قال ابن قدامة: (ويُستَحَبُّ أنْ يَقِفَ في أوَّلِ المطَرِ ويُخْرِجَ رَحْلَهُ ليُصِيبَهُ المطَرُ). وروى ابنُ أبي شيبة في المصنف: (أنَّ عُثمانَ كانَ يَتَمَطَّرُ في أَوَّلِ مَطْرَةٍ).
قال الشيخ عطية سالم في شرحه على بلوغ المرام: "فلا مانع أن يصيب الإنسان من المطر إذا كان عند نزوله، أو يأتي إلى الوادي، ويغسل يديه، أو رجليه منه، أو يشرب منه، إن طابت له نفسه، إذا كان صافيًا صالحاً للشرب، أو غير ذلك، فكل ذلك تبرك بهذا الماء الجديد؛ لأنه حديث عهد بربه، أي: بأوامره، وبإنزاله، وبإغاثته للعباد برحمة منه سبحانه".
رابعا: نسبة المطر إلى الله تعالى وحده
فقد روى البخاري من حديث زيد بن خالد الجهني قال: (صَلَّى لَنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ علَى إثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ علَى النَّاسِ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: أصْبَحَ مِن عِبَادِي مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ، فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنَا بفَضْلِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ، فَذلكَ مُؤْمِنٌ بي وكَافِرٌ بالكَوْكَبِ، وأَمَّا مَن قالَ: بنَوْءِ كَذَا وكَذَا، فَذلكَ كَافِرٌ بي ومُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ).
فمن نسب إنزالَ المطرِ حقيقةً إلى اللهِ تعالى وحده؛ وقال: {مطرنا بفضل الله ورحمته}، فذلِك مُؤمِن بوحدانيَّةِ الله، كافِرٌ بالكَوكِبِ. وأما مَن نسَبَ نزول الأمطارَ وغيرَها مِن الحوادِثِ الأرضيَّةِ إلى تَحرُّكاتِ الكَواكِبِ في طُلوعِها وسُقوطِها مُعتقِدًا أنَّها الفاعِلُ الحقيقيُّ، فهو كافِرٌ مُشرِكٌ في تَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ.
خامسا: التسبيح عند سماع صوت الرعد
يقول سبحانه في سورة الرعد: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(13)}[الرعد].
وقد ورد بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا لَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ". رواه البخاري في "الأدب المفرد"، ومالك في "الموطأ" وصحح إسناده النووي في "الأذكار".
وروى الطبري أيضا عن عدد من الصحابة، منهم علي وابن عباس، ومن التابعين الأسود بن يزيد وطاووس بن كيسان "أنهم كانوا إذا سمعوا صوت الرعد قالوا: سبحان من سبحت له".
وروى أحمد في مسنده والترمذي في جامعه، عن عبد الله بن عمر قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا سمِع الرَّعدَ والصواعِقَ قال: (اللهمَّ لا تَقتُلْنا بغَضَبِكَ، ولا تُهلِكْنا بعَذابِكَ، وعافِنا قبلَ ذلك).[قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.. لكن ضعفه النووي والألباني، وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه].
سادسا: الصلاة في البيوت والرحال
فإذا زاد المطر بحيث شق على الناس الذهاب إلى المساجد، وتأذوا من ذلك، فإنهم يصلون في بيوتهم.. ففي الصحيحين عن نافع: "أنَّ ابنَ عمرَ أذَّنَ بالصَّلاةِ في ليلةٍ ذاتِ بردٍ وريحٍ، فقالَ: ألا صلُّوا في الرِّحالِ؛ (فإنَّ رسولَ اللَّهِ كانَ يأمرُ المؤذِّنَ إذا كانَت ليلةٌ باردةٌ ذاتُ مَطرٍ، يقولُ: ألا صلُّوا في الرِّحالِ).
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما: (أنهُ قالَ لمُؤذِّنهِ في يومٍ مَطِيرٍ: إذا قُلْتَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، أشهدُ أنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ، فَلا تَقُلْ: حَيَّ على الصَّلاةِ، قُلْ: صَلُّوا في بُيُوتِكُمْ، قالَ: فكأَنَّ الناسَ استَنْكَرُوا ذاكَ، فقالَ: أتعجَبُونَ مِنْ ذا، قدْ فَعَلَ ذا مَنْ هوَ خيْرٌ منِّي، إنَّ الجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وإنِّي كَرِهْتُ أنْ أُحْرِجَكُمْ فتَمْشُوا في الطِّينِ والدَّحْضِ) رواه مسلم.
وأجاز بعض العلماء كذلك الجمع بين الصلوات إذا شق عليهم الذهاب إلى المسجد إلى كل صلاة في وقتها بشروط مذكورة في كتب الفقه.
سابعا: الدعاء أن يمسك الله المطر إذا زاد
فإن المطر ربما إذا زاد ضر، وصار نقمة بعد نعمة، وبلاء بعد عافية، وذلك إذا تأذت به الأرض، وتأذى من كثرته الناس، ودخل بيوتهم أو أفسد زرعهم وضرعهم.. وهذا مثل ما ورد في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه { أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما ، ثم قال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل فادع الله تعالى يغيثنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا . قال أنس : فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال : فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس . فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت ، قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتا ، قال : ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب الناس ، فاستقبله قائما ، فقال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبل ، فادع الله أن يمسكها عنا ، قال : فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال : اللهم حوالينا ولا علينا ، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر ، قال : فأقلعت ، وخرجنا نمشي في الشمس )[متفق عليه].
فاللهم اجعل ما وهبتنا صيبا هنيئا مريئا نافعا غير ضار، تسقي به عبادك، وتحيي به بلادك، وتجعله لنا متاعا إلى حين.
اللهم وكما أحييت أرضنا وأغثتنا بمطرك، فأحي قلوبنا وأغثها ببرد عفوك يا كريم.