لم تستطع عيناها ( شبه ) المغمضتين أن تخفيا ملامح الأسى علي وجهها الرقيق ، الأسى الممزوج بابتسامة رضا، لا أظن أن أحدا ممن حضروا الموقف الذي جمعني بها لاحظها، فقد كانت ابتسامة صغيرة حيية، اتسعت قليلا حينما ربت علي كتفها، وحاولت إزالة علامات القلم الملون من على خمارها الناصع. فقد كنا نقف في انتظار حافلة، وكان المكان مزدحما .
سألتني عن رقم الحافلة التي توصلها إلي حيث تريد وأردفت: من فضلك حين تأتي نبهيني ، وساعديني علي الركوب ؛ لأنني كفيفة .
وقتها كانت تقف بجواري امرأة في منتصف العمر بصحبة طفلها الذي لم يكف عن الحركة والتقافز، وفجأة وقف وراء الفتاة وأخرج من جيبه قلما ملونا، رسم به علامات علي خمارها، فتقدمت هي إلي الأمام، وأمسكت بكتفي ، فعاتبت الطفل الذي قال باستهتار: إنها لا تراني ، فاصمتي أنت أيضا .
جذبته أمه ، واعتذرت للفتاة بخجل شديد ، وعرضت عليها أن تعوضها عن الخمار، فأبت وقالت بصوت واهن: إنه طفل ولا حرج عليه، ولمحت الدمعتين والابتسامة الصغيرة، فانتحيت بها جانبا، وحاولت تهوين الأمر عليها.
ونظرت إلي الأم وطفلها فوجدتهما يبتعدان، وهو يواصل الجري والتقافز دون أن يبدو علي أمه أنها تنهره أو تنبهه إلي خطئه.
سألت نفسي: هل لا بد أن يكون بين أفراد الأسرة مبتلي بإعاقة ما حتى يعرف باقي أفرادها ذوقيات التعامل معه، بحكم الاحتكاك أو سلامة الفطرة، أو حتى خشية إيذائه نفسيا؟
وهل الذين لا يعايشون أحد المبتلين لهم العذر في إساءة معاملتهم والسخرية منهم؟!
الإجابة - قطعا - لا ؛ فديننا لم يعف أحدا من ضوابط معاملة المبتلين من أول حمد الله علي السلامة مما ابتلاهم به ، وحتي بذل الوسع في معاونتهم والأخذ بيدهم .
كما أن نماذج الصحابة الناصعة من المبتلين تؤكد لنا أن الابتلاء ليس وصمة أو عارا ، فعبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه كان كريما عند الله حتى عاتب رسوله صلي الله عليه وسلم فيه حين اهتم بسادة قريش أكثر منه .
وعبد الله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة كان أيضا مكفوف البصر أواخر عمره ، ولم تحل عرجة عمرو بن الجموح رضي الله عنه دون جهاده وبلائه الحسن ؛ حتى تمني علي الله تعالى أن يطأ بعرجته الجنة ، وكان له بإذن الله ما أراد.
وكانت ساق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الضعيفة أثقل عند الله عز وجل من جبل أحد.
وكأن الله سبحانه وتعالي يعلمنا في هؤلاء وغيرهم كيف نعامل المبتلين، وكيف لا نستكثر عليهم أقصي درجات حسن الخلق ، ما دام ربهم قد أكرمهم إلى هذا الحد .
أحسبنا محتاجين إلي دروس في قيم التعامل مع ذوي الحاجات الخاصة ، وإلى نسق تربوي لا يغفل هؤلاء ، ولا يسقطهم من حسابه ، بل يعلم النشء كيف يتعاملون مع المبتلي ، وكيف يساعدونه علي الصبر ويشعرونه بآدميته، ويؤكدون له - بشكل غير مباشر - أنه لا ينقص عن الأصحاء شيئا - إن لم يفقهم أحيانا - فكثير من العباقرة والمبدعين مبتلون ، ولعل تحديهم لظروفهم يرجع إلي إحساسهم بنقص غير حقيقي ، أوحى إليهم به من يفتقرون إلي حس إنساني يرقون به إلي مرتبة حسن الصلة بهؤلاء .
ولا أظن مقاعد الصفوف الأولي في الحافلات العامة، والمخصصة لكبار السن والمعاقين، حين يجلس عليها أصحاء بلا مبالاة ، إلا دليلا علي مدى ما وصل إليه بعضنامن تراجع تربوي ، وتدن في الذوق العام.
إن الله جل وعلا سيعوض - كما وعد وهو أصدق من وعد - من فقد حبيبتيه بالجنة إن صبر واحتسب ، فبم عوضنا نحن إخواننا، وبم أعناهم على الصبر والاحتساب ؟
لقد وصف سبحانه وتعالي عبد الله ابن أم مكتوم بالأعمى حين عاتب رسول الله صلي الله عليه وسلم : (عبس وتولي * أن جاءه الأعمى ..* الآية) في لفتة رائعة إلى كراهة العبوس والتولي حتى عمن لا يروننا .
لم يكن الوصف تذكيرا بالإعاقة، بل تكريما له وتنبيها لنا.
فهل انتبهنا أم ما يزال بيننا كثيرون يحملون في جيوبهم أقلاما ملونة يلطخون بها ملابس من لا يرونهم ؟