الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا أخشع في اَي عبادة، أرجو المساعدة.

السؤال

السلام عليكم.

مشكلتي لا أحس بأي خشوع في الصلاة أو القرآن أو الذكر وحتى الدعاء، ضميري دائماً يؤنبني، نفسي تقول لي: لا فائدة من كل عباداتك طالما أنها بدون خشوع.

وأتذكر الأحاديث النبوية في هذا الشأن فأحزن أكثر على حالي، وأخاف الموت على هذا الحال، وقد استوفيت حسناتي في الدنيا.

أنعم الله علي بكل النعم ولكنني حرمت من الخشوع، أحاول وأجد نفسي في سرحان مستمر فأعيد المحاولة وأفشل.

أسرح في أمور الدنيا التافهة كثيرا، أحزن على نفسي وأدعو الله أن يرزقني التلذذ بالصلاة والطمأنينة.

مرت علي سنوات وأفشل مجددا، يئست وقلت ربما هو غضب من الله أو معاصي متراكمة، ساعدوني في إيجاد طريقة للخشوع، فقد جربت كل شيء وأصبحت متأكدة أنني سيئة، وأن الله يعاقبني.

بارك الله فيكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ امً براء حفظها الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك، ونسأل الله أن يمن عليه بحسن الطاعة وحلاوة الذكر والمناجاة، والجواب على ما ذكرت:

- لا شك أن ما تشكين منه يشكو منه الكثير من الصالحين، وحرصك على الخشوع وتحقيق اللذة في العبادة يدل على حسن اهتمامك بأمر دينك، وأن تكوني على خير وصلاح، -وبإذن الله- يتحقق لك ما تريدينه، فأبشري بخير.

- ومما يمكن أن أدلك عليه لتحقيق الخشوع ولذة الطاعة:

* ينبغي أن تعلمي أن من منح الله لعباده، منحة التلذذ بالعبادة؛ لأن الطائع لله يجد فيها راحة النفس وسعادة القلب، وانشراح الصدر عند قيامه بعبادة من العبادات، وهذه اللذة تتفاوت من شخص لآخر حسب قوة الإِيمان وضعفه، قال تعالى: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبِ"، [سورة الرعد] آية 1634,164]، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

* ويجدر بنا أن نسعى جاهدين إلى تحصيل لذة العبادة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول لبلال: «قُمْ فَأَرِحْنَا بِالصَّلاَةِ» رواه أبو دواد، و قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].

* ومن علامة تحقق الخشوع ولذة في العبادة، أن نجد أنفسنا في إقبال عليها، ونسارع إلى الإتيان بها، ونداوم عليها بما شرع الله، ونستشعر معاني العبادة وحضور القلب فيها، ونشعر بالحزن عند فواتها، ونسعى في الترقي في التزود من الطاعات.

* ومن أسباب تحصيل الخشوع وتحقيق لذة العبادة: مجاهدة النفس على طاعة الله تعالى حتى تألفها وتعتادها، فعن فضالة بن عبيد الله -رضي الله عنه-:أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المُجَاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللهِ» رواه الترمذي.

البعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، فإن المعاصي حجاب تمنع من الشعور بلذة العبادة لما يورثه من قسوة وغلظة وجفاء، سئل وهيب بن الورد فقيل له: "متى يفقد العبد لذة العبادة؟ إذا وقع في المعصية، أو إذا فرغ منها؟ قال: يفقد لذة العبادة إذا هم بالمعصية".

والدعاء بالثبات على الدين والطاعة: عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يَقُولُ: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ"، رواه مسلم، وعَائِشَةَ قَالَتْ: دَعَوَاتٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّ-مَ يُكْثِرُ يَدْعُو بِهَا: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُكْثِرُ تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، فَقَالَ: "إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ"، رواه أحمد.

وقال ابن القيم: "الدين مداره على أصلين العزم والثبات، وهما الأصلان المذكوران في"الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد"، وقال أيضا: "أصل الشكر: صحة العزيمة، وأصل الصبر قوة الثبات، فمتى أُيِّد العبد بعزيمة وثبات فقد أُيِّد بالمعونة والتوفيق".

ترك فضول -أي الإكثار من- الطعام والشراب والكلام والنظر.

قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ}، [الأعراف: 31]، وعن المقدام بن معدي كرب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»، رواه الترمذي.

وقال أحد السلف: راحة القلب في قلة الآثام، وراحة البطن في قلة الطعام، وراحة اللسان في قلة الكلام.

- أن يستحضر العبد أن هذه العبادة التي يقوم بها من صلاة أو صيام أو حج أو صدقة إنما هي طاعة لله، وابتغاء مرضاته، وأن هذه العبادة يحبها الله ويرضى عنه بها، وهي التي تقربه من ربه سبحانه، فقد روى البخاري عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».

- أن يستحضر العبد أن هذه العبادات، لا تضيع ولا تفنى كما تفنى كنوز الدنيا وأموالها ومناصبها ولذاتها، بل يجدها العبد أحوج ما يكون إليها، بل إنه ليجد ثمراتها في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مما هو أجل وأعظم؛ فمن استحضر ذلك لم يبالِ بما فاته من الدنيا، وسُرَّ بهذه العبادات ووجد حلاوتها ولذتها، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْمًا وَلاَ هَضْمًا}، [طه: 112].

وروى مسلم عن العباس بن عبد المطلب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً»، وفي الصحيحين عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ».

الفهم والتدبر ومعرفة أسرار الطاعات حتى يتكون فينا الخشوع فيها، فأنصح بقراءة الكتب المتخصصة في هذا مثل كتاب مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي.

الدعاء بأن يرزقك الله الخشوع والاستعاذة به من قلب لا يخشع، فقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: -اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها"، رواه مسلم.

- وأخيراً أوصيك بالاستمرار في المحاولة أكثر، والأخذ بما نصحتك به، ولا تقنطي من رحمة الله، واعلمي أن الطاعات لا يتوقف قبولها على الخشوع فيها، بل هو من الأمور الحسنة، والتي فيها زيادة أجر، ومع الاستمرار على الطاعات يتحقق لك ذلك -بإذن الله تعالى-.

وفقك الله لمرضاته.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • الجزائر اكرام

    جزاك الله كل خير

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً