الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الصبر على فقد الولد له عواقبه الحميدة في الدارين

السؤال

طول عمري وأنا ما أهتم كثيرا، لما أنجبت أطفالا ظللت أغصب نفسي وأقوم وأعمل لهم، لكن تنتابني نوبات من التقصير، وذلك لكوني أعاني من اكتئاب وآخذ أدوية نفسية، والآن أنا أموت في كل ثانية بعد أن خرج ابني للشارع، وعمره أربع سنوات ودهس، وتوفاه الله في منظر بشع ومؤلم. أنا الآن أكاد أجن، أقول في نفسي سيعذبني الله عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، ولا توبة لي. يا ناس أبكي منذ ستة أشهر حتى ذاب لحم وجهي. لا أعبد الله إلا بصعوبة، يائسة من الحياة، أتمنى أن أذهب للمحكمة كي يقاضوني وأرتاح. ساعدوني مأجورين فأنا على وشك الهلاك.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فنسأل الله تعالى أن يأجرك في مصيبتك، وأن يخلف لك خيرا منها، واتقي الله واصبري، فقد قال عز جل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {البقرة:157،156،155}

واعلمي أن الدنيا دار ابتلاء ومحنة، فلا يحملنك الشيطان على ما تخسرين به دينك ودنياك، كاليأس من رحمة الله، والجزع والضجر وعدم الرضا بقضائه سبحانه، أو التقصير في حقه تعالى. فالعاقل من يعيش حياته طلبا للراحة الحقيقية التي تبتدئ بموته ولحوقه بربه الكريم، في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فاستعيني ـ أختنا الكريمة ـ بالله تعالى وتوكلي عليه في تفريج كربك وإزالة همك، وتوفيقك لما يحب ويرضى، فإن الخير كله بحذافيره بيد الله، يؤتيه من يشاء بفضله ورحمته، ويمنعه عمن يشاء بعدله وحكمته. فأحسني مع الله تنالي رحمته، وأقبلي عليه يُقبل عليك، ويتقبل منك، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {الأعراف: 56}

وقال في الحديث القدسي: إذا تقرب العبد إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة. متفق عليه.

وأما ما ذكرتِ من موت الولد، فما يدريك، فلعل ذلك خير لكم وأنتم لا تشعرون، وتذكري في ذلك قصة الخضر وقوله لموسى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) {الكهف:81،80}

وتشبهي بالصابرة المحتسبة العاقلة اللبيبة أم سليم رضي لله عنها، لما مات ابنها قالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة ـ تعني زوجها ـ بابنه حتى أكون أنا أحدثه. فلما جاء قربت إليه عشاء فأكل وشرب، ثم تصنَّعت له أحسن ما كان تصنع قبل ذلك فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني. فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لكما في غابر ليلتكما. فحملت فولدت غلاما. رواه البخاري ومسلم واللفظ له. وفي رواية عند البخاري: فقال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن.

فهذا من الجزاء العاجل للصبر والرضا بقضاء الله تعالى، فضلا عن الأجر الآجل، الذي يتلخص في الفوز بالجنة، وما أدراك ما الجنة قال تعالى في الحديث القدسي: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة. رواه البخاري.

قال ابن الجوزي في (كشف المشكل): الصفيُّ المصطفى كالولد والأخ وكل محبوب مؤثر اهـ. وقال ابن حجر في (الفتح الباري): "فاحتسب" أي صبر راضيا بقضاء الله راجيا فضله اهـ.

وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده. فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد. رواه الترمذي وحسنه، وأحمد، وحسنه الألباني.

وعن قرة بن إياس قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه، فهلك فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مالي لا أرى فلانا؟ قالوا: يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك. فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن بنيه فأخبره أنه هلك، فعزاه عليه ثم قال: يا فلان أيما كان أحب إليك أن تمتع به عمرك أو لا تأتي غدا إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك. قال: يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إلي. قال: فذاك لك. رواه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم وابن حجر والألباني.

وقد سبق لنا بيان أن الدنيا دار ابتلاء، وبيان بعض ثمرات الابتلاءات والمصائب وفوائدها، في الفتويين: 51946 ، 16766. كما سبق لنا ذكر بعض البشارات لأهل البلاء، وبيان الأمور المعينة على تجاوز المصائب، في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 18103، 5249 ، 39151.

وأما ما ذكرتِ مما يدور في نفسك: أن الله تعالى سيعذبك عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين، وأنه لا توبة لك. فإنما هذا من وحي الشيطان ووسوسته؛ ليحملك على اليأس والقنوط، وعلى التقصير في طلب ما ينفعك في دينك ودنياك، ولا نجد لذلك داعيا في ما ذكرت في سؤالك، فإن كنت تعنين بذلك تقصيرك في حفظ الولد من الخروج إلى الشارع، فإننا لو سلمنا بحصول ذلك، فإنه لا يعني أنك أنت قتلتِهِ، بل قتله من صدمه بسيارته، ولذلك لا نجد مساغا لقولك: (أتمنى أن أذهب للمحكمة كي يقاضوني وأرتاح)!

ولو افتراضنا أن والدة قتلت ولدها عمدا ومن دون مبرر، فهذا رغم فظاعته وشناعته ونكارته فإنه لا يحول بينها وبين التوبة والإنابة إلى الله تعالى القائل: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {الفرقان:،71،70،69،68}.

فالله تعالى أرحم الراحمين الذي وسعت رحمته كل شيء، فلا يغرنك الشيطان من ربك الكريم، الذي يبدل سيئات التائبين حسنات، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها. فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. رواه مسلم.

فأري الله من نفسك خيرا، وأقبلي على طاعته، ولتبدئي بتوبة نصوح تصلحين بها ما مضى من حياتك، ولتثني باستقامة صادقة تصلحين بها ما تستقبلين. وفقك الله لما يحبك ويرضى، وغفر ذنبك، وألهمك رشدك، ووقاك شر نفسك.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني