الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل تكفي النية في فعل الطاعات؟

السؤال

فعل السنة يغفر الذنوب، ولكني لم أتمكن من فعل معظم السنن؛ لأن والديّ شيخان كبيران، فهل تكفي النية؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ندري ما الذي تعنينه بقولك: (فعل السنة يغفر الذنوب)؟! لكن المعلوم من الشرع أن الحسنات تكفّر صغائر الذنوب، كما قال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {هود:114}، وفي الحديث المرفوع: واتبع السيئة الحسنة تمحها. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

قال ابن تيمية في منهاج السنة: فإن الذنوب مطلقًا من جميع المؤمنين، هي سبب العذاب، لكن العقوبة بها في الآخرة في جهنم، تندفع بنحو عشرة أسباب.

ثم قال: السبب الثالث: الأعمال الصالحة؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود:114]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل يوصيه: «يا معاذ، اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن». وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر». أخرجاه في الصحيحين.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه»، وقال: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، وقال: «أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرًا غمرًا، يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل كان يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا. قال: كذلك الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا، كما يمحو الماء الدرن»، وهذا كله في الصحيح. وقال: «الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار». رواه الترمذي، وصححه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [الصف:10-12].

وفي الصحيح: «يغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّين»، وما روي: أن «شهيد البحر، يغفر له الدَّين»، فإسناده ضعيف، والدّين حق لآدمي، فلا بد من استيفائه. وفي الصحيح: «صوم يوم عرفة، كفارة سنتين، وصوم يوم عاشوراء، كفارة سنة»، ومثل هذه النصوص كثير. اهـ. وراجعي في بيان هذا، الفتويين: 345061، 155723.

ولا ندري كيف تكون شيخوخة الوالدين، وكبر سنهما مانعًا من فعل معظم السنن؟!

وعلى كل؛ فمرافقة الوالدين الضعيفين، والانشغال بهما، وصرف بعض الجهد والوقت للعناية بهما، فيها الخير الكثير، وهي من أقوى أسباب دخول الجنة، الذي يدندن حوله كل راغب في الخير، ساعٍ لمرضاة ربه، على أن تلك المرافقة إن شغلت عن بعض نوافل العبادة، فإنها لا تشغل عن جميعها.

ولو فرضنا التعارض الحقيقي بين بر الوالدين الكبيرين، وبين فعل النوافل، بحيث لا يمكن الجمع، فإن الأصل أن بر الوالدين مقدم، وراجعي تفصيل ذلك في الفتوى: 9210.

وأما قولك: (فهل تكفي النية): فإن القاعدة في هذا الباب: أن من نوى طاعة، وعزم عليها عزمًا جازمًا، ثم حيل بينه وبين الفعل؛ لسبب كوني، أو شرعي، فإنه يكتب له ثواب الفاعل لها تامًّا.

وأما من همّ بالطاعة همّ عزم، ولم تكن إرادته جازمة، بحيث كان يمكن الفعل، لكنه لم يفعل، فإنه يكتب له ثواب على همّه بالحسنة، لكن ثوابه دون ثواب الفاعل للحسنة، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: الإرادة الجازمة هي التي يجب وقوع الفعل معها، إذا كانت القدرة حاصلة، فإنه متى وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة التامة، وجب وجود الفعل؛ لكمال وجود المقتضي السالم عن المعارض المقاوم. ومتى وجدت الإرادة والقدرة التامة، ولم يقع الفعل، لم تكن الإرادة جازمة، و"الإرادة الجازمة" إذا فعل معها الإنسان ما يقدر عليه، كان في الشرع بمنزلة الفاعل التام: له ثواب الفاعل التام، وعقاب الفاعل التام، الذي فعل جميع الفعل المراد، حتى يثاب ويعاقب على ما هو خارج عن محل قدرته، مثل المشتركين، والمتعاونين على أفعال البر.

ومنها: ما يتولد عن فعل الإنسان، كالداعي إلى هدى، أو إلى ضلالة، والسانّ سنة حسنة وسنة سيئة، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء}، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: {من سنّ سنة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء}، فالداعي إلى الهدى وإلى الضلالة، هو طالب مريد، كامل الطلب والإرادة لما دعا إليه؛ لكن قدرته بالدعاء، والأمر، وقدرة الفاعل بالاتباع، والقبول.

وبهذا تبين: أن الأحاديث التي بها التفريق بين الهامّ والعامل وأمثالها، إنما هي فيما دون الإرادة الجازمة، التي لا بد أن يقترن بها الفعل، كما في الصحيحين عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: {إن الله كتب الحسنات والسيئات؛ ثم بيّن ذلك: فمن همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة. فإن همّ بها وعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات. ومن همّ بسيئة ولم يعملها، كتبها له الله له حسنة كاملة. فإن همّ بها وعملها، كتبها الله له عنده سيئة واحدة}. وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي هريرة. فهذا التقسيم هو في رجل يمكنه الفعل؛ ولهذا قال: "فعملها"، "فلم يعملها"، ومن أمكنه الفعل فلم يفعل، لم تكن إرادته جازمة؛ فإن الإرادة الجازمة مع القدرة، مستلزمة للفعل، كما تقدم أن ذلك كاف في وجود الفعل، وموجب له؛ فإذا همّ بحسنة فلم يعملها، كان قد أتى بحسنة، وهي الهمّ بالحسنة، فتكتب له حسنة كاملة، فإن ذلك طاعة وخير، فإن عملها، كتبها الله له عشر حسنات؛ لما مضى رحمته أن من جاء بالحسنة، فله عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لمن جاء بناقة: {لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة، مزمومة إلى أضعاف كثيرة}. اهـ. باختصار.

وراجعي لمزيد الفائدة، الفتويين: 22692، 125235.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني