الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التوبة مما يشك في تحريمه أو كونه كفرًا ومما لا يعلم من الذنوب

السؤال

جزاكم الله خيرًا على هذا الموقع؛ لما فيه من منفعة للناس، وأسأل الله أن يوفقكم لما يحب، ويرضى.
عندما كان عمري 13 سنة (بعد البلوغ)، سألتني صديقتي عن اسم جارنا، فقلت لها: اسمه عبد الرزاق، وبسرعة ودون تفكير قامت بقلب أحد حروف اسم الله عز وجل، وقالت: "عبد ..."، ولم ننتبه أننا قمنا بسب الله عز وجل، ولم نكن ننوي أن نستهزئ، ولم أعلم أن ما فعلناه كفر مخرج من الملة، ولم أكن أعلم أيضًا حكم من فعل ذلك الذنب العظيم، فنطقت هي الكلمة، وضحكتُ، دون أن ننتبه لتركيب الجملة.
أنا لا أحاول البحث عن أعذار، ولكن هذا ما حدث، كأننا قلنا جملة عادية، وأكملنا كأن شيئًا لم يحدث، ومرت الأعوام (16 سنة)، إلى أن قرأت في إحدى فتاواكم أن السب والاستهزاء بالدين، أو الله، كفر مخرج من الملة، فنزلت عليّ تلك الذكرى كالصاعقة، ولا أستوعب، ولا أتقبل أنني كفرت، وخرجت من الإسلام، فأنا كنت أصوم، وأصلي، واعتمرت، وحججت بيت الله.
ندمت على ماضيّ كله، وكرهت تذكر تلك الذكرى، ومرة أقول: الحمد لله أنني تذكرت، وأتيحت لي فرصة التوبة، فقد كان من الممكن أن أموت على ذلك الذنب، وبدأت أنتبه لما أقول وأسمع، وشيئًا فشيئًا تذكرت حوادث أخرى، لم أكن أقصدها، فبعض المصطلحات في اللغة العامية قد تكون كفرية، وبعض الجمل اقتباسات من القرآن الكريم، وقد كنت أرددها دون إدراك لمعناها، وإنما نرددها حسب الظروف، دون تمعن في معانيها، فدخلت في حالة شك في كل ماضيّ، فتبت إلى الله، وندمت، ونطقت الشهادتين، واغتسلت، وعزمت على أن أنتبه للساني، وامتنعت من كل شيء من مسلسلات، وأغانٍ، وغيرها، فإذا سب الإنسان الله عز وجل، أو الدين، أو الرسل -والعياذ بالله- عن غير قصد، أو كان يردد كلمات كفرية دون وعي بمعناها -كما حصل لي-، فهل هذا كفر؟ وهل هو مخرج من الملة؟ وهل يجوز للإنسان التوبة من ذنب يشك في أنه فعله؟ فأنا لا أعلم ما أخرج لساني أيضًا، فقد أكون نطقت بكلمة كفرية لا أتذكرها، وإذا كفر الإنسان وهو لا يعلم، وقال يومًا ما: "اللهم إني تبت إليك، دون أن يعلم أنه قد كفر قبل ذلك"، فهل هذه التوبة مقبولة، وتجزئه؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن التلفظ بالكلمات الكفرية دون قصد معناها الكفري، لا يعد كفرًا، ولا يخرج به المسلم من الإسلام، وانظري بيان هذا في الفتوى: 333490.

وأما التوبة مما يشك في تحريمه، أو كونه كفرًا، فهي مشروعة عند بعض العلماء، جاء في الآداب الشرعية: تلزم التوبة شرعًا كل مسلم مكلف قد أثم، من كل ذنب، وقيل: غير مظنون. قال في نهاية المبتدئين: تصح التوبة مما يظن أنه إثم، وقيل: لا، ولا تجب بدون تحقق إثم. قال القاضي: وإذا شك في الفعل الذي فعله هل هو قبيح أم لا؟ فهو مفرط في فعله، وتجب عليه التوبة من هذا التفريط، ويجب عليه أن يجتهد بعد ذلك في معرفة قبح ذلك الفعل أو حسنه؛ لأن المكلف أخذ عليه أن لا يقدم على فعل قبيح، ولا على ما لا يأمن أن يكون قبيحًا، فإذا قدم على فعل يشك أنه قبيح، فإنه مفرط، وذلك التفريط ذنب، تجب التوبة منه، وأصل هذه المسألة مذكور في آخر باب الأمانة.
قال الشيخ تقي الدين: فمن تاب توبة عامة، كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص، مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره، لم يتب منه؛ لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن. اهـ. باختصار. وراجعي الفتوى: 333868.

وأما توبة العبد، واستغفاره مما لا يعلمه من الذنوب -كفرًا كان أو غيره-، فهي مشروعة بلا ريب، كما بيناه في الفتوى: 391918.

وعلى كل حال: فما دمت تبت، واستغفرت مما صنعت، فقد أديت ما عليك -هذا إذا سلمنا أن ما فعلته كفر، ولم يكن الأمر مجرد وسوسة منك-، فأعرضي عن التفكير في تلك الوقائع، واتركي السؤال عنها، واشتغلي بتحقيق التوبة، والإكثار من الاستغفار، والأعمال الصالحة، وهذا الذي يشرع لكل مسلم في كل حال.

وراجعي للفائدة الفتاوى: 298288، 209236، 353314.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني