الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التائب يُغلِّب جَانِبِ الرَّجَاء

السؤال

في حالة توبة العبد من الذنوب أيهما يغلب جانب الخوف، أم الرجاء؟ وكيف يفرق بين الخوف، وبين القنوط من رحمة الله؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فلا خلاف بين أهل العلم أن المطلوبَ من العبد الجمعُ بين الخوف وبين الرجاء، وأنه لو ترجح تغليبُ أحدِهما في بعض المواطن فإنه لا يقطع النظر إلى الآخر.

فالتائب من الذنب كغيره، يجمع بين الخوف وبين الرجاء، وإن غَلَّبَ جانبَ أحدِهما لم يقطع نظرَه عن الآخر، وأما أيهما يُغَلِّبُ؟ فالذي يظهر أن التائب يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف، فقد غَلّبَ سحرةُ فرعون الرجاءَ عند توبتهم، فذكروا طمعهم في مغفرة الله تعالى، ولم يذكروا خوفهم مما سبق منهم فقالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ. الشعراء: 51.

ولأن التائب إن غلب جانب الرجاء، ظن أن الله تعالى سيغفر له، فرُجي له تحقيق ما رجاه؛ لحديث: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي.

قال الحافظ العراقي في طرح التثريب: فِيهِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الرَّجَاءِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَملَ عَفْوَ اللَّهِ وَصَفْحَهُ؛ أَعْطَاهُ اللَّهُ أَمَلَهُ وَعَفَا عَنْهُ ... وَالْمُؤَمِّلُ عَفْوَ اللَّهِ لَا يَكُونُ أَمَلُهُ إلَّا عَنْ سَبَبٍ مِنْ تَوْبَةٍ وَاسْتِغْفَارٍ، وَتَقَرُّبٍ بِحَسَنَاتٍ. اهــ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ في كتابه: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: "قوله تعالى: (( أنا عند ظن عبدي بي )). قِيلَ مَعْنَاهُ ظَنُّ الْإِجَابَةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ، وَظَنُّ الْقَبُولِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَظَنُّ الْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الِاسْتِغْفَارِ، وَظَنُّ قَبُولِ الْأَعْمَالِ عِنْدَ فِعْلِهَا عَلَى شُرُوطِهَا، تَمَسُّكًا بِصَادِقِ وَعْدِهِ، وَجَزِيلِ فَضْلِهِ.

قلتُ: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اُدْعُوَا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ». وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِلتَّائِبِ وَالْمُسْتَغْفِرِ، وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْقِيَامِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، مُوقِنًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْبَلُ عَمَلَهُ وَيَغْفِرُ ذَنْبَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. فَأَمَّا لَوْ عَمِلَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُهَا، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُهُ، فَذَلِكَ هُوَ الْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَصَلَ إلَى مَا ظَنَّ مِنْهُ، كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي؛ فَلْيَظُنَّ عَبْدِي بِي مَا شَاءَ».

فَأَمَّا ظَنُّ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَة مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَذَلِكَ مَحْضُ الْجَهْلِ وَالْغِرَّةِ، وَهُوَ يَجُرُّهُ إلَى مَذْهَبِ الْمُرْجِئَةِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ». وَالظَّنُّ تَغْلِيبُ أَحَدِ الْمُجَوَّزَيْنِ، بِسَبَبٍ يَقْتَضِي التَّغْلِيبَ، فَلَوْ خَلَا عَن السَّبَبِ الْمُغَلِّبِ لَمْ يَكُنْ ظَنًّا، بَلْ غِرَّةً وَتَمَنِّيًا" انْتَهَى.
وأما التفريق بين الخوف وبين القنوط، فقد سبق أنْ بينا أنَّ القنوط معناه اليأس، وشعور المرء أنه لا يغفر له أبدا، وأنه صائر لا محالة إلى غضب الله وعذابه. وهذا بخلاف الخوف الذي لا يصل بالعبد إلى هذا الحد من اليأس، وإنما يخاف أن يعاقب، ومع ذلك لا ييأس ويرجو رحمة الله.

وانظر الفتوى: 71116 عن معنى القنوط، والفتوى: 25324 عن الخوف من الله... معناه وأثره وكيفية اكتسابه، والفتوى: 345820 عن الفرق بين الخوف من الله وسوء الظن به، والفتوى: 305968 عن كيفية الموازنة بين الخوف والرجاء.

والله تعالى أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني