الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الغيبة

الغيبة

الغيبة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
(فإن تحريم النيل من عِرض المسلم أصل شرعي متين، عُلم بالضرورة من دين الإسلام، و " حفظ العرض " أحد الضروريات الخمس التي شُرعت من أجلها الشرائع.
لقد خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مسمع يزيد عن مائة ألف نفس من صحابته الأبرار في حجة الوداع، فقال: " إِن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ " (البخاري).
والأعراض: جمع عِرْض، (وهو موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو في سَلَفه، أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه وحَسَبه ، ويُحامي عنه أن يُنتقص ويُثلبَ).
وإننا نعني بالعرض المعنى الواسع لكل ما يقبل المدح والذم في الإنسان...

ونظر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يومًا إلى الكعبة، فقال: " ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك ".
وعن جابر رضي الله عنه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ". (مسلم).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها ، قال: " هي في النار "، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تَصَّدَّقُ بالأثوار (جمع ثَور، وهي القطعة ) من الأقِط ( لبن جامد)، ولا تؤذي جيرانها بلسانها ، قال: " هي في الجنة " (رواه أحمد).

وعن سفيان بن حسين، قال: كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل، تخوفت إن قمت من عنده أن يقع فيَّ، قال: فجلست حتى قام، فلما ذكرته لإياس، قال: فجعل ينظر في وجهي، فلا يقول لي شيئًا حتى فرغت، فقال لي: " أغزوت الديلم؟ "، قلت: " لا "، قال: " فغزوت السند؟ "، قلت: " لا "، قال: " فغزوت الهند؟ "، قلت: " لا "، قال: " فغزوت الروم؟ "، قلت: " لا "، قال: " فسلم منك الديلم، والسند، والهند، والروم، وليس يسلم منك أخوك هذا؟ "، فلم يعد سفيان إلى ذلك.

ما هي الغيبة؟
الغيبة هي ذكر الشخص في غيبته بما يكرهه، وقد تكون تصريحا أو تلميحا أو حتى بالإشارة.
قال ابن الأثير في " النهاية ": " الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء، وإن كان فيه". وقال النووي في " الأذكار " تبعًا للغزالي: " الغيبة ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلُقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز ".

أدلة تحريم الغيبة
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات11: 12].
يعني: إن كرهتم أكل لحم الإنسان الميت طبعًا، فاكرهوه شرعًا، فإن عقوبته أشد.
قال ابن عباس رضي الله عنه: " إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة؛ لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس".
وقال قتادة: " كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا، كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيًا".
واستُعمِل أكل اللحم مكان الغيبة؛ لأن عادة العرب بذلك جارية، قال الشاعر:
فإن أكلوا لحمي وَفَرتُ لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجدًا

حكم الغيبة، والتحذير منها:
قال الإمام القرطبي رحمه الله: " لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل".
وعن جابر رضي الله عنه قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فهبَّت ريح مُنْتنَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين ". (أحمد وغيره).
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " حسبك من صفية كذا وكذا "، قال بعض الرواة: تعني أنها قصيرة، فقال: " لقد قلتِ كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزجته " (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

وعن أبي برزة الأسلمي والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإِيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإِنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف بيته ".(أحمد وغيره).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: بينما أنا أماشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو آخذ بيدي، ورجل على يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّهما ليُعذبان، ... وما يعذبان إِلا في الغيبة والبول ". (أحمد وغيره).
وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لما عُرِج بِي مَررت بقومٍ لهم أظفار من نحاس يَخْمِشُونَ (يخدشون ويقطعون) وجوههم وصدورهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم ". (أحمد وغيره).

السلف يحذرون من الغيبة
سمع علي بن الحسين رجلاً يغتاب آخر، فقال: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: إياك والغيبةَ، إياك والوقوعَ في الناس، فيهلِك دينُك.

وسئل بشر بن الحارث عمن يغتاب الناس يكون عدلاً؟ قال: لا، إذا كان مشهورًا بذلك فهو الوضيع.

وقال الفضيل: سمعت سفيان يقول: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إليّ من أن أرميه بلساني.

وقال الحسن: والله! لَلغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكَلةِ في جسده).

وعن ابن سيرين : أكثر الناس خطايا أكثرهم ذكرا لخطايا الناس.

علاج الغيبة
أول العلاج أن يعلم من يقع في الغيبة أنه بذلك متعرض لغضب الله ومقته وأن حسناته تؤخذ منه فتعطى لمن اغتابه، فإن فنيت الحسنات أخذ من سيئات الآخر فوضعت عليه، فهذا والله أعظم زاجر عن الغيبة، ثم ليتفكر في عيوب نفسه ولينشغل بإصلاحها؛ فمن انشغل بعيوب نفسه لم ير عيوب الآخرين فضلا عن أن يقع فيهم، قال بعضهم:
فإن عبت قوما بالذي فيك مثله فكيف يعيب الناس من هو أعور
وإن عبت قوما بالذي ليس فيهم فــذلـك عــنــد الله والنـاس أكـبـر

كفارة الغيبة
إن المغتاب في الحقيقة قد وقع في جنايتين:
الأولى في حق الله تعالى إذ ارتكب ما نهى الله عنه، فكفارة ذلك التوبة والندم.
والثانية في حق المخلوق من الوقوع في عرضه، فإذا كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه فاستحله وأظهر له الندم على فعله.
وإن كانت الغيبة لم تبلغه جعل مكان استحلاله الاستغفار له والثناء عليه بما فيه من خير أمام من اغتابه عندهم.
نسأل الله أن يحفظ جوارحنا من العصيان، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الإعلام بحرمة أهل العلم والإسلام، البحر الرائق في الزهد والرقائق).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة