الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحسيب

الحسيب

الحسيب


عندما بيّت أهل الكفر الخديعة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-، واستبطنوا له خلاف ما يظهرونه، طمأن الله سبحانه وتعالى نبيّه، فأنزل عليه: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله} (الأنفال: 62)، فبيّن سبحانه أنه حسيبٌ لنبيّه فلا ينشغل باله بما يكيدون، فما هي دلالات هذا الاسم العظيم ؟

الأصل في الاشتقاق

الحسيب مأخوذٌ من الفعل: حسِبَ، يُقال: حسَبته أحسِبه حَسبا وحِسَابا وحُسبانا، وحِسابة، إذا عددته، وحاسبته من المحاسبة. يقول الكسائي: "ما أدري ما حَسَبُ حديثك، أي ما قَدْرُهُ".

والحَسَبُ يُطلق كذلك على ما يعدُّه الإنسان من مفاخر آبائه وأجداده، فيُقال: فلانٌ حسيب، أي كريم الأصل والمحْتَد، ويقال: حَسَبُهُ دينُهُ أو مالهُ، والحُسبان بالضم معناه: العذاب، ومثاله من كتاب الله تعالى قوله: { ويرسل عليها حسبانا من السماء} (الكهف:40)، ويُطلق كذلك على الحساب، وذلك كقوله تعالى: {الشمس والقمر بحُسبان} (الرحمن:5)، ومعناه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: يجريان بعدد وحساب، وتقول العرب أن الحسبان، جمع حُسبانة، وهي الوسادة الصغيرة. وقد حسبت الرجل أحسبه، إذا أجلسته عليها ووسّدته إياها.

وجرى على الألسنة قولهم: احتسب فلان ابنه، وذلك أن يعدّ فقيده في الأشياء المذخورة له عند الله تعالى، ومن هذا الإطلاق قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً ) البخاري، أي مريداً وجه الله وثوابه.

والحسب هو الكفاية، ونحن نقول: حسبي الله ونعم الوكيل، ونقصد بأن الله هو كافينا من كلّ شيء، وقد خاطب أبو بكر رضي الله عنه النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم أحد فقال: "حسبك يا رسول الله، فقد ألححت على ربك" رواه البخاري.

وأما قول الرجل للآخر: حسيبك الله،فله أربعة معانٍ، الأوّل: العالم، فيكون الكلام قد خرج مخرج التهديد، فهو كقوله: الله مطّلع وعالم بما تفعله، والثاني: الاقتدار، فكأنّه يقول: الله قديرٌ عليك، والثالث: الكفاية، فالله كافيك وناصرك، والرابع: المحاسبة، فيكون المقصود: الله محاسبك على أفعالك.

المعنى الاصطلاحي

بالعودة إلى كلام العلماء في معنى اسم الله "الحسيب" نجد أنها تدور على أربعة معانٍ: الحفظ، والكفاية ، والشهادة، والمحاسبة، وما تستلزمه هذه الصفات من العلم الكامل.

يقول الشيخ السعدي في تعريف هذا الاسم: "الحسيب: هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق اعمالهم وجليلها".

والحسيب بمعنى الرقيب المحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وهوالذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر، ثم يُحاسبهم عليها ويُجازيهم بها على حسب مقتضيات أعمالهم، قال الله تعالى: {فأما من أوتي كتابه بيمينه*فسوف يحاسب حسابا يسيرا*وينقلب إلى أهله مسرورا*وأما من أوتي كتابه وراء ظهره*فسوف يدعوا ثبورا*ويصلى سعيرا} (الانشقاق:8-12).

وتأتي بمعنى الكفاية، فالله هو الكافي عباده همومهم وغمومهم، وكفايته لعباده عامّة وخاصّة، فأما العامّة فهي التي تقتضي آثارها من الرزق والإمداد بالنعم، وتكون لجميع الخلائق، وأما الخاصة فهي للمؤمنين به، المتوكّلين عليه، قال تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (الطلاق:3)، أي: يكفيه أمور دينه ودنياه.

قال ابن القيم:

وهو الحسيب كفاية وحماية ... والحسب كافي العبد كل أوان


أدلة هذا الاسم من النصوص الشرعيّة

ورد اسم الله "الحسيب" في ثلاث آيات، الأولى قوله تعالى: {وكفى بالله حسيبا} (النساء: 6)، وبنفس اللفظ في (الأحزاب: 39)، كما وردت في قوله تعالى: {إن الله كان على كل شيء حسيبا} (النساء: 86).

ومن السنّة ما ورد من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن كان أحدكم مادحا لا محالة؛ فليقل: أحسب كذا وكذا - إن كان يرى أنه كذلك- وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحد) متفق عليه.
وقد ورد هذا الاسم كذلك في حديث إحصاء التسعة والتسعين اسماً لله تبارك وتعالى، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس يصحّ عند المحدّثين.

هل يُسمى الله الحاسب

أورد بعض العلماء تسمية الله تعالى باسم "الحاسب"، ومن هؤلاء: الإمام القرطبي، والإمام ابن الوزير، واستدلّوا على هذا الاسم بقول الله تعالى: {وكفى بنا حاسبين} (الأنبياء:47)، وقوله تبارك وتعالى، {وهو أسرع الحاسبين} (الأنعام:6)، كما أوردوا قوله تعالى:{والله سريع الحساب} (النور:39) استدلالاً على هذا الاسم.

وعلى الرغم مما ذكروه إلا أنه لا يظهر مشروعية تسمية الله تعالى بهذا الاسم، فلا ينبغي أن نثبته له، فإن الأدلّة التي قاموا بإيرادها لا تدلّ صراحةً على هذه التسمية، وإنما استنبط العلماء هذا الاسم من الألفاظ القرآنيّة الدالة على الصفة فحسب، لذلك نجد أن أكثر العلماء من الذين اعتنوا بجمع أسماء الله وتحقيقها لم يوردوا هذا الاسم، والله أعلم.

آثار الإيمان بهذا الاسم

الله سبحانه وتعالى هو الكافي لجميع الخلائق ، وأما المخلوق فقد يكفي مؤونة أحد، لكنّه لا يكفي مؤونة كلّ أحد، وإذا استطاع مدّ يد المعونة فذلك لأجل معلوم ووقت محدود، أما الله فهو الكافي سبحانه لجميع الخلائق على وجه الدوام، يقول الغزالي: "الله سبحانه وتعالى حسيب كل أحد وكافيه، وهذا وصف لا تُتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي لوجوده، ولدوام وجوده، ولكمال وجوده، وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلا الله عز وجل؛ فإنه وحده كاف لكل شيء لا لبعض الأشياء، أي هو وحده كاف ليحصل به وجود الأشياء، ويدوم به وجودها، ويكمل به وجودها".

ومن آثار الإيمان بهذا الاسم: الثقة بالله سبحانه وتعالى والركون إليه، واستشعار معيّة العبد للخالق في جميع الأوقات ومختلف الأحوال، بحيث يكفيه همّه كلّه، ولا يحوجه إلى أحدٍ غيره، كيف لا وهو سبحانه له مقاليد السماوات والأرض، وبيده الأمر كلّه؟

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة