الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القول المفهم في معنى: شرط الشيخين البخاري ومسلم

القول المفهم في معنى: شرط الشيخين البخاري ومسلم

القول المفهم في معنى: شرط الشيخين البخاري ومسلم

اختلف العلماء في تحديد معنى قول الحاكم أو غيره: "على شرط الشيخين"، أو "شرط البخاري"، أو "شرط مسلم"، وسنأتي على بيان ذلك فيما يلي:

قال بعض العلماء: معناه: أن هذه الأحاديث احتج بمثلها الشيخان، أَو أَحدهما، فما كان على شرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا، يعني أَن رجال إِسْنَاده احتجا بمثلهم، لَا أن نفس رِجَاله احتجا بهم، ومن هنا كان الأولى بالحاكم وغيره أن يقولوا: "إسناده على شرط الصحيح" أو "إسناده على شرط البخاري" أو "إسناده على شرط مسلم"؛ ذلك أنه من المعلوم أن الإمام البخاري وكذلك الإمام مسلم قد تركا الكثير من الأحاديث كانت أسانيدها على شرطهما، لأنهما لم يشترطا استيعاب الأحاديث الصحيحة كلها.

ومن هنا فإن صنيع الحاكم واستدراكه على البخاري ومسلم أو على أحدهما في مستدركه قد أثار عدة استفسارات، وكأنه بهذا قد وضع نفسه مكانهما في تحديد شرطهما، وهو أمر يصعب تخيله، خاصة إذا علمنا أنهما لم يقصدا الاستقصاء في صحيحيهما، ولم يذكر أن أحداً منهما كان له شرط حدده وقال: شرطي هو كذا وكذا، كما قال ابن طاهر في شروط الأئمة: "اعلم أن البخاري ومسلماً ومن ذكرنا بعدهم، لم ينقل عن واحد منهم أنه قال: شرطتُ أن أخرج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سبر كتبهم، فيعلم بذلك شرطُ كل رجلٍ منهم".

وما فعله الحاكم يُعد أمراً دقيقاً، بل في غاية الصعوبة والخطورة، فقد صحح بهذا العمل بعض الأحاديث التي قال إنها على شرطهما أو شرط أحدهما وهي لا تصح، وكان الأولى به أن يقول: "رواها من هم من رجال البخاري، أو من رجال مسلم"، وقد اعترض على منهجه في تحديد معنى قوله: "على شرط الشيخين أو أحدهما" عدد من العلماء كـابن الصّلاح، والنواوي، وابن دَقِيق الْعِيد، والذَّهَبِيّ، وغيرهم، حيث قالوا ما حاصله: هناك أحاديث حكم عليها الحاكم بأنها عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ أَو أَحدهمَا، فِيهِ فلان، وَلم يخرج لَهُ مَنْ صَححهُ عَلَى شَرطه.

ومن هنا نجد أن بعض العلماء قد تدارك هذا فقالوا: يحتمل قوله هذا أحد معنيين: إما أن رواة الحديث المذكور هم رواة البخاري أو مسلم، أو رواة كل منهما، وإما أن رواة الحديث مثل رجال البخاري، أو رجال مسلم من حيث العدالة والضبط، ورجح بعضهم الاحتمال الأول، وهو الذي يعبرون عنه أحياناً بقولهم: "رجاله رجال الصحيح"، فالبخاري يشترط تحقق اللقاء بين الراوي وشيخه الذي روى عنه، ولا يكتفي بالمعاصرة، كما هو الحال عن الإمام مسلم، الذي لا يشترط تحقق اللقاء.

والاحتمال الثاني: أن هؤلاء الرواة قد خرَّج لهما البخاري أو مسلم، وهو القول المشهور الظاهر من فهم الدارقطني، وصنيع الحاكم نفسه في المستدرك، والنووي، وابن دقيق العيد.

والاحتمال الثالث: يعني أنًّ هذا الحديث الذي جاء بهذا الإسناد، إسناده ثقات عدول، فهو متصل غير شاذ، ولا معل، وهو ما قصده الحاكم، والحازمي، وابن طاهر المقدسي وغيرهم.

هل البخاري له شرط في صحيحه؟

تحدث العلماء كثيراً عن شرط البخاري فقالوا: واعلم أن شرط البخاري ومسلم أن يُخرجا الحديث المُتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور، من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلاً غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعداً فحسن، وإن يكن له إلا راوٍ واحد إذا صح الطريقُ إلى الراوي أخرجاه، إلا أن مسلماً أخرج أحاديث أقوامٍ ترك البخاري حديثهم، لشبهةٍ وقعت في نفسه، أخرج مسلم أحاديثهم بإزالة الشبهة، مثل: حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبي الزبير، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم.

قال السيوطي في "تدريب الراوي": "وأجيب: بأنَهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما, ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين. وقالوا: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده, أو نقله عن معاصر, فالجواب ذلك, وإن نقله عن متقدِّم فلا، قال: ويمكن أن يجاب بأن ما قاله ابن طاهر هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجح يقوم مقامه".

وقال الحاكم في "علوم الحديث": "وصف الحديث الصحيح أن يرويه الصحابي المشهور بالرِّواية عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان، ثم يرويه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور بالرواية، وله رواة ثقات"، وقال في "المدخل": "الدرجة الأولى من الصحيح اختيار البخاري ومسلم، وهو أن يروي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة، بأن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يروي عنه التابعي المشهور بالرِّواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين حافظ متقن، وله رواة من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا، كالشهادة على الشهادة".

ما ذكره الحاكم وإن كان منتقضاً في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم، إلا أنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد فقط، وفي هذا المعنى قال الحازمي ما حاصله: شرط البخاري أن يخرِّج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين المُلازمين لمن أخذوا عنه مُلازمة طويلة، وأنه قد يُخرج أحياناً عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة، وشرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوائل الجرح، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه، كـحماد بن سلمة في ثابت البُناني وأيوب.

وقال النووي: "إن المراد بقولهم: على شرطهما: أن يكون رجال إسناده في كتابيهما, لأنه ليس لهما شرط في كتابيهما, ولا في غيرهما، فقولهم (شرط البخاري، أو شرط مسلم): يراد منها أن الحديث اتفق سنداً ومتناً مع ما يشترطه البخاري ومسلم في الأحاديث"، وهذا القول فيه نظر، فالقول في حديث ما أنه على شرط الشيخين، أو شرط البخاري، أو شرط مسلم، يلزم أن يكون له من الأهلية ما يجعله ينظر في المتون كما كان ينظر البخاري ومسلم، وهو محال في حق أي من العلماء المتأخرين أن يصل نظره ورؤيته إلى نظر أمثال هؤلاء الجهابذة الحفاظ كالإمام البخاري أو مسلم، أما من حيث الرجال، فمعرفة ما هو على شرط الشيخين أو أحدهما ممكن، إلا أننا نجد بعض الأحاديث أسانيدها على شرط الصحيح لكن معلولة من حيث المتن، فصحة السند لا يلزم منها صحة المتن، كما هو معلوم عند أئمة الحديث، فلا تلازم بين صحة الإسناد وسلامة المتن.

قال الحازمي: "مذهب من يخرج الصحيح أن يعتبر حال الراوي العدل في مشايخه وفيمن روى عنهم، وهم ثقات أيضاً، وحديثه عن بعضهم صحيح ثابت يلزمه إخراجه، وعن بعضهم مدخول لا يصح إخراجه، إلا في الشواهد والمتابعات، وهذا باب فيه غموض، وطريقه معرفة طبقات الرواة عن راوي الأصل ومراتب مداركهم"، ولنوضح ذلك بمثال نقول: إن أصحاب الزهري مثلاً على طبقات خمس، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها وتفاوت، فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو غاية مقصد الإمام البخاري، أما الطبقة الثانية فقد شاركت الأولى في العدالة، غير أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان وبين طول الملازمة للزهري، حتى كان فيهم من يلازمه في السفر والحضر، والطبقة الثانية لم تلازمه إلا مدة يسيرة، فلم تمارس حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، وهؤلاء هم شرط مسلم.

فالحاكم عمَّم في كتابه "علوم الحديث" شرط الصحيح من حيث هو، وخصص ذلك في كتابه "المدخل" بشرط الشيخين، وقد نقض عليه الحازمي ما ادعى أنه شرط الشيخين بما في الصحيح من الغرائب التي تفرد بها بعض الرواة، وأجيب بأنه إنما أراد أن كل راوٍ في الكتابين يشترط أن يكون له راويان، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه، قال أبو علي الغساني ونقله عياض عنه: "ليس المراد أن يكون كل خبر روياه يجتمع فيه راويان عن صحابيه، ثم عن تابعيه، فمن بعده، فإن ذلك يعز وجوده، وإنما المراد أن هذا الصَّحابي، وهذا التابعي قد روى عنه رجلان، خرج بهما عن حد الجهالة".

وقد أطال الحازمي في محاولة فهم مقصد الحاكم من ذلك حيث قال: "وكأن الحاكم قاس هذا الأمر على الشهادة، لأن الشهادة يشترط فيها التعدد، وأجيب: باحتمال أن يريد بالتشبيه بعض الوجوه لا كلها، كالاتصال، واللِّقاء، وغيرهما".

وقال ابن المواق: "ما حمل الغساني عليه كلام الحاكم, وتبعه عليه القاضي عياض وغيره ليس بالبين، ولا أعلم أحدًا روى عنهما أنهما صرحا بذلك، ولا وجود له في كتابيهما، ولا خارجاً عنهما، فإن كان قائل ذلك عرفه من مذهبهما بالتصفح, لتصرفهما في كتابيهما، فلم يُصب، لأن الأمرين معًا في كتابيها، وإن كان أخذه من كون ذلك أكثريًا في كتابيهما، فلا دليل فيه على كونهما اشترطاه، ولعلَّ وجود ذلك أكثرياً، إنما هو لأن من روى عنه أكثر من واحد، أكثر ممن لم يرو عنه إلا واحد من الرواة مُطلقاً، لا بالنسبة إلى ما خُرِّج له منهم في الصحيحين، وليس من الإنصاف إلزامهما هذا الشرط، من غير أن يثبت عنهما ذلك، مع وجود إخلالهما به، لأنهما إذا صحَّ عنهما اشتراط ذلك، كان في إخلالهما به درك عليهما"..

هذا ولعل الموضوع يحتاج إلى أكثر من هذا، فيرجع إلى مظانه في كتب المصطلح، وما لا يدرك كله، لا يترك جله، وخير الكلام ما قل ودل. والله تعالى أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة