الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

رحمة النبي ووفاؤه مع أعدائه

رحمة النبي ووفاؤه مع أعدائه

رحمة النبي ووفاؤه مع أعدائه

من نِعم الله عز وجل على البشرية والناس جميعاً بعثته لنبيه صلى الله عليه وسلم، الذي من أخلاقه وسماته التي اتصف وتحلى بها خُلُق الرحمة، التي شملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، تلكم الرحمة التي كانت له سجيّة، لا تنفك عنه أبداً، لا في سِلم ولا في حرب، ولا في حَضر ولا سَفر، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107). قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن الله جَعَل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أي: أرسله رحمة لهم كلَّهم، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ سَعد في الدنيا والآخرة، ومن رَدَّها وجَحَدَها خَسِر في الدنيا والآخرة"، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه وعن بعثته: (إنما أنا رحمة مهداة) رواه البيهقي وصححه الألباني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! ادعُ على المشركين، قال: إني لم أُبعث لَعَّانًا وإنما بُعِثْتُ رحمة) رواه مسلم.
والسيرة النبوية بأحداثها وغزواتها تظهر بوضوح أن رحمته صلى الله عليه وسلم لم تكن رحمة مُتكلَّفة، تحدث في بعض المواقف وتتخلف في أخرى، إنما كانت رحمة فِطْرية، فطره الله عليها، واتصف بها، وتعامل بها في جميع أحواله ومواقفه، حتى مع أعدائه.

رحمته مع أعدائه في جهاده وقتاله لهم :
في الحرب وقتال الأعداء تتحكم في النفس مشاعر الغضب على العدو، والغلظة عليه، والانتقام منه، ومن ثم ففي الحروب ربما يُقتل من لا يستحق القتل، أو يقتل بطريقة لا تليق بالإنسان، فيها تعذيب له، أو تمثيل بجثته، ومن المعلوم والثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمَّر أميراً على جيش أوسريَّة أوصاه بتقوى الله، ونهاه عن قتل الصغار والنساء، أو الغدر بالأعداء، أو التمثيل بجثة من قُتِل منهم، وقال له: (اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا) رواه مسلم. وقد وُجدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم مستنكرا قتلها: (ما كانت هذه لتقاتل) رواه أبو داود.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وحروبه عن قتل النساء والصبيان، وأوصى بالأسرى خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالأُسَارَى خيرا) رواه الطبراني.

وفاؤه بالعهد مع أعدائه :
إذا كان ترك الغدر فضيلة، فأفضل منه الوفاء بالعهد، لأن الوفاء بالعهد فيه ترك الغدر أيضاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفي بالعهد ولا يغدر، ويأمر قادة جيوشه أن يتركوا الغدر ويوصيهم قائلا لهم: (ولا تغدروا) رواه مسلم. قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم ـ: (ولا تغدروا) بكسر الدال.. وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر". وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقض قوم العهد إلا سُلِّط عليهم عدوَهم) رواه الطبراني وصححه الألباني. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) رواه أحمد وصححه الألباني.

ومن مواقفه صلى الله عليه وسلم في وفائه مع أعدائه:
ـ موقفه مع حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأبيه في غزوة بدر. فعن حذيفة رضي الله عنه قال: (ما منعني أن أشهدَ بدراً إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْل، فأخذنا كفارُ قريشٍ، قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلا المدينة، فأخذوا منا عهدَ الله وميثاقَه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال:انصرفا، نَفِي بعهدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم) رواه مسلم. قال المناوي: "(انصرفا، نَفِي بعهدِهم) أمْرٌ لحذيفة وأبيه بالوفاء للمشركين بما عاهدوهما عليه حين أخذوهما وأخذوا عليهما أن لا يقاتلوهما يوم بدر، فاعتذرا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقبل عذرهما وأمرهما بالوفاء، (ونستعين الله عليهم) أي: على قتالهم، فإنما النصر من عند الله لا بكثرة عَدَد ولا عُدَد، وقد أعانه الله تعالى وكانت واقعة (بدر) أعزَّ الله بها الإسلام وأهله".

ـ بعد الانتهاء من كتابة وثيقة صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو في قيوده هارباً من المشركين في مكة، فقام إليه أبوه ـ سهيل ـ فضربه في وجهه وقال: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ ـ وذلك حسب العهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ـ. فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين أَأُرَدّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا عقدنا بيننا وبين القوم عهداً، وإنا لا نغدر بهم)، ثم طمأنه وبشره النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: (يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجا) رواه أحمد.

ومع بُعْد النبي صلى الله عليه وسلم عن الغدر ولو مع الأعداء، وتنفيره الشديد من الغدر، فقد أجاز الخدعة في الحرب وقال: (الحرب خدعة) رواه البخاري. ومن الخديعة في الحرب مفاجأة العدو وأخذه على غِرَّة قبل أن يستعد للقتال، وما شابه ذلك من الحيل، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث بسرايا كثيرة فيوصيهم بالسير ليلاً والاستخفاء نهاراً حتى يباغتوا عدوهم، والخدعة في الحرب لا تكون بنقض عهود أو مواثيق، قال النووي: "اتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب كيف أمكن الخداع، إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل". فالغدر ونقض العهود ليس من أبواب الحيلة والخداع الجائز في الحروب.

ما وُجِدَ على الأرض أعظم خُلقاً، وأرحم بالناس، وأوفى بوعد وعهدٍ من نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107). ولم تتخلف رحمته وينقض وفاؤه حتى مع أعدائه الذين آذوه وحاربوه، وبذلوا غاية جهدهم للقضاء على دينه ودعوته، وكادوا له ولصحابته، والسيرة النبوية المشرفة بما فيها من غزوات وأحداث مليئة بالمواقف المضيئة الدالة على ذلك. وقد أقر وشهد أعداؤه بوفائه وهم في شدة عداوتهم له، فقال مكرز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عُرِفتَ بالغدر صغيراً ولا كبيرا، بل عُرِفتَ بالبر والوفا". ولما سأل هرقل أبا سفيان - وهو يومئذ ما زال كافراً -: (أيغدر محمد؟ فقال: لا، فقال هرقل: وكذلك الرسل لا تغدر).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة