الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 615 ] وسئل رحمه الله عن النحنحة والسعال والنفخ والأنين وما أشبه ذلك في الصلاة : فهل تبطل بذلك أم لا ؟ وأي شيء الذي تبطل الصلاة به من هذا أو غيره ؟ وفي أي مذهب ؟ وأيش الدليل على ذلك ؟

                التالي السابق


                فأجاب : الحمد لله رب العالمين . الأصل في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين } . وقال : { إن الله يحدث من أمره ما يشاء ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة } قال : زيد بن أرقم فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام . وهذا مما اتفق عليه المسلمون . قال ابن المنذر وأجمع أهل العلم : على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة والعامد من يعلم أنه في صلاة وأن الكلام محرم .

                ( قلت وقد تنازع العلماء في الناسي والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة وفي ذلك كله نزاع في مذهب أحمد وغيره من العلماء . [ ص: 616 ] إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات .

                ( أحدها أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه وإما مع لفظ غيره كفي وعن فهذا الكلام مثل : يد ودم وفم وخد .

                ( الثاني أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه والأنين والبكاء ونحو ذلك .

                ( الثالث أن لا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع كالنحنحة فهذا القسم كان أحمد يفعله في صلاته وذكر أصحابه عنه روايتين في بطلان الصلاة بالنحنحة . فإن قلنا : تبطل ففعل ذلك لضرورة فوجهان . فصارت الأقوال فيها ثلاثة : ( أحدها أنها لا تبطل بحال وهو قول أبي يوسف وإحدى الروايتين عن مالك ; بل ظاهر مذهبه .

                ( والثاني تبطل بكل حال وهو قول الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك .

                ( والثالث إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بطلت وهو قول أبي حنيفة ومحمد وغيرهما وقالوا : إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه [ ص: 617 ] لم تبطل قالوا : لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرا فرخص فيه للحاجة . ومن أبطلها قال : إنه يتضمن حرفين وليس من جنس أذكار الصلاة فأشبه القهقهة والقول الأول أصح . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم التكلم في الصلاة وقال : { إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين } وأمثال ذلك من الألفاظ التي تتناول الكلام . والنحنحة لا تدخل في مسمى الكلام أصلا فإنها لا تدل بنفسها ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى ولا يسمى فاعلها متكلما وإنما يفهم مراده بقرينة فصارت كالإشارة .



                وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان : ( أحدهما أن تدل على معنى بالطبع .

                ( والثاني أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلاما . يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع ذكرهابن المنذر .

                وهذه الأنواع فيها نزاع بل قد يقال : إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة فهي كالصوت العالي الممتد الذي لا حرف معه . وأيضا فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها ما يناقض مقصودها فأبطلت لذلك [ ص: 618 ] لا لكونه متكلما . وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلاما وليس مجرد الصوت كلاما وقد روي عن { علي رضي الله عنه قال : كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي } رواه الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي بمعناه .

                وأما ( النوع الثاني وهو ما يدل على المعنى طبعا لا وضعا فمنه النفخ وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضا : ( إحداهما لا تبطل وهو قول إبراهيم النخعي وابن سيرين وغيرهما من السلف وقول أبي يوسف وإسحاق .

                ( والثانية أنها تبطل وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثوري والشافعي وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين .

                وقد قيل عن أحمد : إن حكمه حكم الكلام وإن لم يبن حرفين . واحتجوا لهذا القول بما روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من نفخ في الصلاة فقد تكلم } رواه الخلال ; لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعا فلا يعتمد عليه لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس وفي لفظ عنه : النفخ في الصلاة كلام رواه سعيد في سننه .

                قالوا : ولأنه تضمن حرفين وليس هذا من جنس أذكار [ ص: 619 ] الصلاة فأشبه القهقهة والحجة مع القول كما في النحنحة والنزاع كالنزاع فإن هذا لا يسمى كلاما في اللغة التي خاطبنا بها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور والكلام لا بد فيه من لفظ دال على المعنى دلالة وضعية تعرف بالعقل فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين فهو دلالة طبعية حسية فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة بل تدل بقصد المشير وهي تسمى كلاما ومع هذا لا تبطل فإن { النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة } فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز كما دلت عليه النصوص .

                ومع هذا فلما كان مشروعا في الصلاة لم يبطل فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل فكيف بما دل بالطبع وهو لم يقصد به إفهام أحد ولكن المستمع يعلم منه حاله كما يعلم ذلك من حركته ومن سكوته فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت هذا لو لم يرد به سنة فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة { أن النبي [ ص: 620 ] صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الكسوف فجعل ينفخ فلما انصرف قال : إن النار أدنيت مني حتى نفخت حرها عن وجهي } . وفي المسند وسنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو { أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده فقال : أف أف أف رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم } ؟ وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام أو فعله خوفا من الله أو من النار . قالوا : فإن ذلك لا يبطل عندنا نص عليه أحمد . كالتأوه والأنين عنده والجوابان ضعيفان : ( أما الأول فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم وإبراهيم كان من مارية القبطية ومارية أهداها له المقوقس بعد أن أرسل إليه المغيرة وذلك بعد صلح الحديبية فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين لا سيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام ; لأن أبا هريرة شهدها فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف بل قد قيل : الشمس كسفت بعد حجة الوداع قبل موته صلى الله عليه وسلم بقليل .

                وأما كونه من الخشية : ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه [ ص: 621 ] أو ينفخ في التراب . ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين وليس هذا ذاك .



                وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء الذي يمكن دفعه والتأوه والأنين فهذه الأشياء هي كالنفخ . فإنها تدل على المعنى طبعا وهي أولى بأن لا تبطل فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال : { فلا تقل لهما أف } لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه ذكروا أنها تبطل إذا أبان حرفين ولم يذكروا خلافا .

                ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة ومنهم من ذكر الرواية الأخرى عنه في النفخ فصار ذلك موهما أن النزاع في ذلك فقط وليس كذلك بل لا يجوز أن يقال : إن هذه تبطل والنفخ لا يبطل . وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقا على أصله وهو أصح الأقوال في هذه المسألة .

                ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال : الأنين لا يقطع صلاة المريض وأكرهه للصحيح . ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه ولكنه لم يره مبطلا .

                [ ص: 622 ] وأما الشافعي : فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلاما مبطلا وهو أشد الأقوال في هذه المسألة وأبعدها عن الحجة فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام وإن كان بالقياس لم يصح ذلك فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه وذلك يشغل المصلي . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن في الصلاة لشغلا } وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس . ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتا وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل ولا نظير .

                وأيضا فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ كما تقدم وأيضا فالصلاة صحيحة بيقين فلا يجوز إبطالها بالشك ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام هو ما يدعى من القدر المشترك بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغير خشية الله فإن فعل ذلك لخشية الله فمذهب أحمد وأبي حنيفة أن صلاته لا تبطل ومذهب الشافعي أنها تبطل ; لأنه كلام والأول أصح فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه فإنه كلام [ ص: 623 ] يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه وهذا خوف الله في الصلاة وقد مدح الله إبراهيم بأنه أواه وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله . ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة فإنه لو صرح بمعناه كان كلاما مبطلا .

                وفي الصحيحين أن { عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ غلبه البكاء قال : مروه فليصل إنكن لأنتن صواحب يوسف } وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } والنشيج : رفع الصوت بالبكاء كما فسره أبو عبيد . وهذا محفوظ عن عمر ذكره مالك وأحمد وغيرهما وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبا .

                فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب فالصحيح عند الجمهور أنه لا يبطل وهو منصوص أحمد وغيره وقد قال بعض أصحابه إنه يبطل وإن كان معذورا : كالناسي وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد : أحدهما : وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل .

                [ ص: 624 ] والثاني : وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل وهذا أظهر وهذا أولى من الناسي لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع } .

                وأيضا فقد ثبت { حديث الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي فنهى النبي صلى الله عليه وسلم معاوية عن الكلام في الصلاة ; ولم يقل للعاطس شيئا } . والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف رضي الله عنهم .

                وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وأن الأظهر فيها جميعا أنها لا تبطل فإن الأصوات من جنس الحركات وكما أن العمل اليسير لا يبطل فالصوت اليسير لا يبطل بخلاف صوت القهقهة فإنه بمنزلة العمل اليسير وذلك ينافي الصلاة بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر ; ولهذا لا تجوز فيها بحال بخلاف العمل الكثير فإنه يرخص فيه لضرورة والله أعلم .




                الخدمات العلمية