الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا خرج الإمام يوم الجمعة ترك الناس الصلاة والكلام حتى يفرغ من خطبته ) قال رضي الله عنه : وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : لا بأس بالكلام إذا خرج الإمام قبل أن يخطب وإذا نزل قبل أن يكبر ; لأن الكراهة للإخلال بفرض الاستماع ولا استماع هنا ، بخلاف الصلاة ; لأنها قد تمتد . ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام { إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام } من غير فصل ، ولأن الكلام قد يمتد طبعا فأشبه الصلاة .

التالي السابق


( قوله : ولأبي حنيفة قوله : صلى الله عليه وسلم { إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام } ) رفعه غريب ، والمعروف كونه من كلام الزهري ، رواه مالك في الموطإ قال { خروجه يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام } . وأخرج [ ص: 68 ] ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام . والحاصل أن قول الصحابي حجة فيجب تقليده عندنا إذا لم ينفه شيء آخر من السنة ، ولو تجرد المعنى المذكور عنه وهو أن الكلام يمتد طبعا ، أي يمتد في النفس فيخل بالاستماع ، أو أن الطبع يفضي بالمتكلم إلى المد فيلزم ذلك ، والصلاة أيضا قد تستلزم المعنى الأول فتخل به استقل بالمطلوب . وأخرج ابن أبي شيبة عن عروة قال : { إذا قعد الإمام على المنبر فلا صلاة } .

وعن الزهري قال في الرجل يجيء يوم الجمعة والإمام يخطب ، يجلس ولا يصلي . وأخرج الستة عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم قال { وإذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت } وهذا يفيد بطريق الدلالة منع الصلاة وتحية المسجد ; لأن المنع من الأمر بالمعروف وهو أعلى من السنة وتحية المسجد فمنعه منها أولى ، ولو خرج وهو فيها يقطع فيها ركعتين . فإن قيل : العبارة مقدمة على الدلالة عند المعارضة وقد ثبتت ، وهو ما روي { جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : أصليت يا فلان ؟ قال لا ، قال : صل ركعتين وتجوز فيهما } فالجواب أن المعارضة غير لازمة منه ; لجواز كونه قطع الخطبة حتى فرغ وهو كذلك ، رواه الدارقطني في سننه من حديث عبيد بن محمد العبدي ، حدثنا معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس قال { دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : قم فاركع ركعتين ، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته } ثم قال : أسنده محمد بن عبيد العبدي ووهم فيه ، ثم أخرجه عن أحمد بن حنبل : حدثنا معتمر عن أبيه قال { جاء رجل } الحديث .

وفيه { ثم انتظره حتى صلى } قال : وهذا المرسل هو الصواب ، ونحن نقول : المرسل حجة فيجب اعتقاد مقتضاه علينا ، ثم رفعه زيادة إذا لم يعارض ما قبلها فإن غيره ساكت عن أنه أمسك عن الخطبة أو لا ، وزيادة الثقة مقبولة ، ومجرد زيادته لا توجب الحكم بغلطه وإلا لم تقبل زيادة ، وما زاده مسلم فيه من قوله { إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما } لا ينفي كون المراد أن يركع مع سكوت الخطيب لما ثبت في السنة من ذلك أو كان قبل تحريم الصلاة في حال الخطبة فتسلم تلك الدلالة عن المعارض .

وهذه فروع تتعلق بالمحل وقدمناه في باب صفة الصلاة ، ويتعين أن لا يخلى عنها مظنتها : يحرم في الخطبة الكلام وإن كان أمرا بمعروف أو تسبيحا ، والأكل والشرب والكتابة ، ويكره تشميت العاطس ورد السلام . وعن أبي يوسف لا يكره الرد ; لأنه فرض . قلنا : ذاك إذا كان السلام مأذونا فيه شرعا وليس كذلك في حالة الخطبة بل يرتكب بسلامه مأثما ; لأنه به يشغل خاطر السامع عن الفرض ، ولأن رد السلام يمكن تحصيله في كل وقت ، بخلاف سماع الخطبة ، وعلى هذا الوجه الثاني فرع بعضهم قول أبي حنيفة ، أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 69 ] عند ذكره في الخطبة . وعن أبي يوسف : ينبغي أن يصلي في نفسه ; لأن ذلك مما لا يشغله عن سماع الخطبة فكان إحرازا للفضيلتين وهو الصواب ، وهل يحمد إذا عطس ؟ الصحيح نعم في نفسه ، ولو لم يتكلم لكن أشار بعينه أو بيده حين رأى منكرا الصحيح لا يكره ، هذا كله إذا كان قريبا بحديث يسمع ، فإن كان بعيدا بحيث لا يسمع اختلف المتأخرون فيه ; فمحمد بن سلمة اختار السكوت ، ونصير بن يحيى اختار القراءة ، وعن أبي يوسف اختيار السكوت كقول ابن سلمة ، وحكي عنه النظر في كتابه وإصلاحه بالقلم ، مجموع ما ذكر عنه أوجه .

فإن طلب السكوت والإنصات وإن كان للاستماع لا لذاته ، لكن الكلام والقراءة لغير من بحيث يسمع قد يصل إلى أذن من بحيث يسمع فيشغله عن فهم ما يسمع أو عن السماع ، بخلاف النظر في الكتاب والكتابة .




الخدمات العلمية