الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : وقراءة القرآن ) أي يمنع الحيض قراءة القرآن وكذا الجنابة لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن } رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه المنذري وصححه النووي وقال إنه يقرأ بالرفع على النفي وهو محمول عن النهي كي لا يلزم الخلف في الوعد وبكسر الهمز لالتقاء الساكنين على النهي وهما صحيحان .

                                                                                        وعن علي رضي الله عنه قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا } رواه أبو داود والترمذي وقال إنه حسن صحيح ثم كل من الحديثين يصلح مخصصا لحديث مسلم عن عائشة { أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه } بعد القول بتناول الذكر قراءة القرآن وبقولنا قال أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين كما حكاه الترمذي في جامعه وشمل إطلاقه الآية وما دونها وهو قول الكرخي وصححه صاحب الهداية في التجنيس وقاضي خان في شرح الجامع الصغير والولوالجي في فتاويه ومشى عليه المصنف في المستصفى وقواه في الكافي ونسبه صاحب البدائع إلى عامة المشايخ وصححه معللا بأن الأحاديث لم تفصل بين القليل والكثير لكن ذكر أن القراءة مكروهة وفي كثير من الكتب أنها حرام ، وفي رواية الطحاوي يباح لهما ما دون الآية وصححه الخلاصة في الفصل الحادي عشر في القراءة ومشى عليه فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير ونسبه الزاهدي إلى الأكثر ووجهه صاحب المحيط بأن النظم والمعنى يقصر فيما دون الآية ويجري مثله في محاورات الناس وكلامهم فتمكنت فيه شبهة عدم القرآن ولهذا لا تجوز الصلاة به . ا هـ .

                                                                                        فحاصله أن التصحيح قد اختلف فيما دون الآية والذي ينبغي ترجيح القول بالمنع لما علمت من أن الأحاديث لم تفصل والتعليل في مقابلة النص مردود ; لأن شيئا كما في الكافي نكرة في سياق النفي فتعم وما دون الآية قرآن فيمتنع كالآية مع أنه قد أجيب أيضا بالأخذ بالاحتياط فيهما وهو عدم الجواز في الصلاة والمنع للجنب ومن بمعناه ، ويؤيده ما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه قال اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة ، فإن أصابه فلا ولا حرفا واحدا ثم قال : وهو الصحيح عن علي وهذا كله إذا قرأ على قصد أنه قرآن ، أما إذا قرأه على قصد الثناء أو افتتاح أمر لا يمنع في أصح الروايات وفي التسمية اتفاق أنه لا يمنع إذا كان على قصد الثناء أو افتتاح أمر كذا في الخلاصة وفي العيون لأبي الليث ولو أنه قرأ الفاتحة على سبيل الدعاء أو شيئا من الآيات التي فيها معنى الدعاء ولم يرد به القراءة فلا بأس به ا هـ .

                                                                                        واختاره الحلواني وذكر في غاية البيان أنه المختار لكن قال الهندواني لا أفتي بهذا ، وإن روي عن أبي حنيفة ا هـ .

                                                                                        وهو الظاهر في مثل الفاتحة فإن المباح إنما هو ليس بقرآن [ ص: 210 ] وهذا قرآن حقيقة وحكما لفظا ومعنى وكيف لا وهو معجز يقع به التحدي عند المعارضة والعجز عن الإتيان بمثله مقطوع به وتغيير المشروع في مثله بالقصد المجرد مردود على فاعله بخلاف نحو الحمد لله بنية الثناء ; لأن الخصوصية القرآنية فيه غير لازمة وإلا لانتفى جواز التلفظ بشيء من الكلمات العربية لاشتمالها على الحروف الواقعة في القرآن وليس الأمر كذلك إجماعا بخلاف نحو الفاتحة فإن الخصوصية القرآنية فيه لازمة قطعا وليس في قدرة المتكلم إسقاطها عنه مع ما هو عليه من النظم الخاص كما هو في المفروض ، وقد انكشف بهذا ما في الخلاصة من عدم حرمة ما يجري على اللسان عند الكلام من آية قصيرة من نحو ثم نظر أو لم يولد ، ثم اعلم أنهم قالوا هنا وفي باب ما يفسد الصلاة إن القرآن يتغير بعزيمته فأورد الإمام الخاصي كما نقله عنه السراج الهندي في التوشيح بأن العزيمة لو كانت مغيرة للقراءة لكان ينبغي أنه إذا قرأ الفاتحة في الأوليين بنية الدعاء لا تكون مجزئة ، وقد نصوا على أنها مجزئة .

                                                                                        وأجاب بأنها إذا كانت في محلها لا تتغير بالعزيمة حتى لو لم يقرأ في الأوليين فقرأ في الأخريين بنية الدعاء لا يجزئه . ا هـ .

                                                                                        والمنقول في التجنيس أنه إذا قرأ في الصلاة فاتحة الكتاب على قصد الثناء جازت صلاته ; لأنه وجدت القراءة في محلها فلا يتغير حكمها بقصد . ا هـ .

                                                                                        ولم يقيد بالأوليين ولا شك أن الأخريين محل القراءة المفروضة فإن القراءة فرض في ركعتين غير عين ، وإن كان تعيينها في الأوليين واجبا وذكر في القنية خلافا فيما إذا قرأ الفاتحة على قصد الدعاء فرقم لشرح شمس الأئمة الحلواني أنها لا تنوب عن القراءة ا هـ .

                                                                                        وأما الأذكار فالمنقول إباحتها مطلقا ويدخل فيها اللهم اهدنا إلى آخره ، وأما اللهم إنا نستعينك إلى آخره الذي هو دعاء القنوت عندنا فالظاهر من المذهب أنه لا يكره لهما وعليه الفتوى ، كذا في الفتاوى الظهيرية وغيرها وعن محمد يكره لشبهة كونه قرآنا لاختلاف الصحابة في كونه قرآنا فلا يقرأه احتياطا قلنا حصل الإجماع القطعي اليقيني على أنه ليس بقرآن ومعه لا شبهة توجب الاحتياط المذكور نعم المذكور في الهداية وغيرها في باب الأذان استحباب الوضوء لذكر الله تعالى وترك المستحب لا يوجب الكراهة وفي الخلاصة ولا ينبغي للحائض والجنب أن يقرأ التوراة والإنجيل كذا روي عن محمد والطحاوي لا يسلم هذه الرواية قال رضي الله عنه وبه يفتى . ا هـ .

                                                                                        وفي النهاية وغيرها وإذا حاضت المعلمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي وعلى قول الطحاوي تعلم نصف آية ا هـ .

                                                                                        وفي التفريع نظر [ ص: 211 ] على قول الكرخي فإنه قائل باستواء الآية وما دونها في المنع إذا كان ذلك بقصد قراءة القرآن وما دون الآية صادق على الكلمة ، وإن حمل على التعليم دون قصد القرآن فلا يتقيد بالكلمة ثم في كثير من الكتب التقييد بالحائض المعلمة معللا بالضرورة مع امتداد الحيض ، وظاهره عدم الجواز للجنب لكن في الخلاصة واختلف المتأخرون في تعليم الحائض والجنب والأصح أنه لا بأس به إن كان يلقن كلمة كلمة ولم يكن من قصده أن يقرأ آية تامة . ا هـ . والأولى ولم يكن من قصده قراءة القرآن كما لا يخفى .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : لأن شيئا كما في الكافي نكرة إلخ ) الظاهر أن قوله كما في الكافي مؤخر عن محله من النساخ ومحله قبل قوله ; لأن شيئا أي الواقع في لفظ الحديث المار وعبارة شرح المنية لابن أمير حاج ; لأن هذا كما في الكافي تعليل في مقابلة النص فيرد ; لأن شيئا نكرة إلخ . ( قوله : لا أفتي به ) قال الشيخ إسماعيل النابلسي في شرحه على الدرر لم يرد الهندواني رد هذه الرواية بل قال ذلك لما يتبادر إلى ذهن من يسمعه من الجنب من غير اطلاع على نية قائله من جوازه منه وكم من قول صحيح لا يفتى به خوفا من محذور آخر ولم يقل لا أعمل به كيف وهو مروي عن أبي حنيفة رحمه الله . ا هـ .

                                                                                        وبه يظهر ما في بحث المؤلف . ( قوله : وهو الظاهر في مثل الفاتحة إلخ ) قال في النهر لقائل أن يقول كونه قرآنا في الأصل لا يمنع من إخراجه عن القرآنية بالقصد بالنسبة إلى قصد الثناء فالتلازم منفك نعم ظاهر تقييد صاحب العيون بالآيات [ ص: 210 ] التي فيها معنى الدعاء يفهم أن ما ليس كذلك كسورة أبي لهب لا يؤثر قصد القرآنية في حله لكني لم أر التصريح به في كلامهم . ا هـ .

                                                                                        قلت المفهوم معتبر ما لم يصرح بخلافه ( قوله : وكيف لا وهو معجز إلخ ) قال الشيخ إسماعيل فيه بحث ; لأنه إذا لم يرد بها القرآن فات ما بها من المزايا التي يعجز عن الإتيان بها جميع المخلوقات إذ المعتبر فيها القصد إما تفصيلا وذلك من البليغ أو إجمالا وذلك بحكاية كلامه وكلاهما منتف حينئذ كما لا يخفى مع أنه مروي عن أبي حنيفة رحمه الله وإذا قالت حذام فكيف يطلق أنه مردود . ( قوله : ولا شك أن الأخريين إلخ ) قال في النهر أقول : ما قاله الخاصي مبني على تعيين الأوليين للفرضية وهو قول لأصحابنا كما سيأتي وما في التجنيس على عدمه فأنى يصادم محل أحدهما بالآخر . ( قوله : وترك المستحب لا يوجب الكراهة ) اعترضه في النهر بأن تركه خلاف الأولى وهو مرجع التنزيه فكونه لا يوجب كراهة مطلقا ممنوع . ا هـ .

                                                                                        قلت وفيه كلام يأتي في مكروهات الصلاة إن شاء الله تعالى قبيل الفصل ( قوله : وفي الخلاصة لا ينبغي إلخ ) قال العلامة إبراهيم الحلبي قول صاحب الخلاصة به يفتى يظهر منه أنه يفتى بقول الطحاوي المشير إلى عدم الكراهة لكن الصحيح الكراهة ; لأن ما بدل منه بعض غير معين وما لم يبدل غالب وهو واجب التعظيم والصون وإذا اجتمع المحرم والمبيح غلب المحرم وقال عليه الصلاة والسلام { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } وبهذا ظهر فساد قول من قال يجوز الاستنجاء بما في أيديهم من التوراة والإنجيل من الشافعية فإنه مجازفة عظيمة ، فإن الله تعالى لم يخبرنا بأنهم بدلوها عن آخرها وكونه منسوخا لا يخرجه عن كونه كلام الله تعالى كالآية المنسوخة من القرآن . ا هـ .

                                                                                        وقال الزيلعي ويكره لهما قراءة التوراة والإنجيل والزبور ; لأن الكل كلام الله تعالى إلا ما بدل منها ومثلها في النهر وكذا قال في السراج الوهاج لا يجوز لهما قراءة التوراة والإنجيل والزبور ; لأن الكل كلام الله تعالى . ( قوله : قال رضي الله عنه إلخ ) أي صاحب الخلاصة ( قوله : وفي التفريع نظر إلخ ) قال في النهر أقول : بل هو صحيح إذ الكرخي وإن منع ما دون الآية لكن بما به يسمى قارئا ، ولذا قالوا لا يكره التهجير بالقراءة ولا يخفى أنه بالتعليم كلمة لا يعد قارئا فتنبه لهذا التقييد المفيد . ا هـ .

                                                                                        ونقل بعض الفضلاء عن المولى يعقوب باشا ما نصه قوله ما دون الآية أي من المركبات لا المفردات ; لأنه جوز للحائض المعلمة تعليمه كلمة كلمة . ا هـ .

                                                                                        وهذا مؤيد لما قاله صاحب النهر وكذا يؤيده ما في [ ص: 211 ] شرح المنية حيث حمل قولها ولا يكره التهجي للجنب بالقرآن والتعلم للصبيان حرفا حرفا أي كلمة كلمة مع القطع بين كل كلمتين على قول الكرخي وعلى قول الطحاوي لا يكره إذا علم نصف آية مع القطع بينهما وقال قبله وينبغي أن تقيد الآية بالقصيرة التي ليس ما دونها مقدار ثلاث آيات قصار فإنه إذا قرأ مقدار سورة الكوثر يعد قارئا وإن كان دون آية حتى جازت به الصلاة . ا هـ .

                                                                                        وفي السراج قال أصحابنا المتأخرون إذا كانت الحائض أو النفساء معلمة جاز لها أن تلقن الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي وعلى قول الطحاوي تعلمهم نصف آية نصف آية ولا تلقنهم آية تامة . ( قوله : والأولى ولم يكن من قصده قراءة القرآن ) قال بعض الفضلاء في اشتراط صاحب الخلاصة عدم قصد القراءة نظر ; لأنه إذا لم يقصد القراءة فلا يتقيد بالكلمة لما تقدم أن القرآن يخرج عن القرآنية بالقصد ولم يذكر هذا الشرط في النهاية والسراج والظهيرية والذخيرة وكذا في فتح القدير ولم أر من نبه على ذلك فليتأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية