الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ) أي ذلك ما لزمكم من أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى عليه السلام ، أي أوحاه إليه ليكتب ويهتدى به إلى أن ينزل بترقيته تعالى لاستعداد جملة البشر - ما ينسخه ، ( وهذا ) " أي القرآن " ( كتاب عظيم القدر ) ، فتنكيره للتفخيم ( أنزلناه على خاتم رسلنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أنزلنا التوراة على موسى من قبل ( مبارك ) باركه الله أو بارك فيه بما فضل به ما قبله من الكتب في النظم والمعنى ، وبما يكون من ثباته وبقائه إلى آخر عمر البشر في الدنيا ، هو من " البركة " وهي - بالتحريك - النماء والزيادة والسعة النافعة كبركة الماء . ومن معاني المادة الثبات والاستقرار كبرك البعير . ( مصدق الذي بين يديه ) وهو ما تقدمه من كتب الأنبياء ، أي مصدق لإنزال الله تعالى إياها في الجملة ، لا لكل ما يعزى إليها بالتفصيل وقد ذكر فيه بعض الكتب بأسمائها والصحف مضافة إلى أصحابها ، وذكر بعض قواعدها وأحكامها ، على أنه أنزل مهيمنا عليها ، ناعيا على بعض أهلها تحريفهم لها ، ونسيانهم لحظ عظيم منها ، وقد تقدم شرح ذلك في تفسير سورة المائدة وما قبلها . ونقل الرازي في تفسير " مبارك " عن أهل المعاني أن معناه كثير خيره ، دائم بركته ومنفعته ، يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية . ثم فسر ذلك هو بأن ما فيه من العلوم النظرية فهو أشرفها وأكملها وهو العلم بالله تعالى وصفاته ، وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، وما فيه من العلوم العملية لا توجد في غير مثله سواء كانت أعمال الجوارح أو أعمال القلوب . ثم قال : وأنا قد نقلت أنواعا من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادة في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم انتهى . أي علم القرآن بتفسيره [ ص: 517 ] فليعتبر بهذا من يضعون جل أوقاتهم في طلب العلم الديني بعلوم الكلام وغيرها ، مما يعدون الرازي الإمام المطلق فيها ، لعلهم يرجعون إلى كتاب الله تعالى ويهتدون به ، ويطلبون السعادة من فيضه دون غيره ، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإتمام تفسيره ، وأن يجعله حجة لنا لا علينا بكمال التخلق به .

                          ( ولتنذر أم القرى ومن حولها ) قال الزمخشري : إن هذا عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قال : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه وللإنذار ، واختار السعد التفتازاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار لأن عطف الظرف على المفرد كثير في بابي الخبر والصفة ، وفيه بحث . ويجوز أن يكون عطفا على مقدر حذف لدلالة القرينة عليه كفعل التبشير الذي يقابل الإنذار ، وقد جمع بينهما في أول سورة الكهف وآخر سورة مريم ، وجرى البيضاوي على أن التعليل المحذوف دل عليه المذكور أي ولتنذر أم القرى أنزلناه . وقرأ أبو بكر عن عاصم " ولينذر " بالإسناد المجازي إلى الكتاب ، وأم القرى مكة والمراد أهلها بالاتفاق ، كنيت بهذه الكنية لأنها قبلة أهل القرى ، أي البلاد التي يجتمع فيها الناس كبيرة كانت أو صغيرة ، أو لأن فيها أول بيت وضع للناس ، أو لأنها حجهم ومجتمعهم ، أو لأنها أعظم القرى شأنا في الدين ، أو لأنهم يعظمونها كالأم ، أو لأن الأرض دحيت من تحتها كما روي عن بعض مفسري السلف . والمراد بالأخير أنها أول ما ظهر من الأرض اليابسة في الماء ، ولا يعرف مثل هذا إلا بوحي صريح ، والمراد بقوله تعالى : ( ومن حولها ) أهل الأرض كافة كما روي عن ابن عباس ، ويقويه تسميتها بأم القرى ونحن نعلم الآن علم اليقين أن الناس يصلون متوجهين إلى بيت الله فيها ، في جميع أقطار الأرض القريبة منها والبعيدة عنها فهذا مصداق كونهم حولها ، وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا ، واستدلوا به على أن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة بقومه العرب ، والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور ، فإن إرساله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه لا ينافي إرساله إلى غيرهم ، وقد ثبت عموم بعثته في آيات أخرى كقوله تعالى في هذه السورة : ( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ) 18 أي وكل من بلغه ووصلت إليه هدايته وقد تقدم ، وقوله في أول سورة الفرقان : ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) وقوله في سورة سبأ ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) 34 : 28 .

                          ( والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به ) أي والذين يؤمنون بالآخرة أو الحياة الآخرة وما فيها من الجزاء على الإيمان والأعمال إيمانا إذعانيا صحيحا أو استعداديا قويا سواء كانوا من أهل الكتاب أو من غيرهم ، يؤمنون بهذا الكتاب المبارك إذا بلغهم أو إذا بلغهم دعوته ; لأنهم يجدون فيه أكمل الهداية إلى السعادة العظمى في تلك الدار ، فمثلهم كمثل قوم سفر ضلوا في مفازة من مجاهل الأرض ، حتى إذا كادوا يهلكون جاءهم رجل بكتاب [ ص: 518 ] في علم خرت الأرض وتقويم البلدان ، فيه بيان مكانهم وبيان أقرب السبل لمنجاتهم ، فإنهم لا يتلبثون بقبوله والعمل به ، وأما المنكرون للبعث والجزاء فلا يشعرون بشدة الحاجة إلى هدايته . وفي هذا تعريض أو تصريح بسبب إعراض جمهور أهل مكة الأعظم عن هذا الكتاب الذي فيه سعادتهم . وبالغ الرازي في قوله : يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين ، لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة من العقاب ، وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام اهـ . ويعلم وجه المبالغة مما فسرنا به الجملة الشريفة ( وهم على صلاتهم يحافظون ) يؤدونها في أوقاتها ، مقيمين لأركانها وآدابها ; فإن الإيمان بالبعث وبالقرآن يقتضي ذلك حتما ، وخصت الصلاة بالذكر لأنه لم يكن فرض عند نزول السورة من أركان العبادات غيرها ، على أنه لما كانت الصلاة عماد الدين ورأس العبادات وممدة الإيمان بالتقوية وكمال الإذعان ، كانت المحافظة عليها داعية إلى القيام بسائر العبادات المفروضة وترك جميع المحرمات المنصوصة ، ومحاسبة النفس على الشبهات والأفعال المكروهة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية