الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 24 ] ثم دخلت سنة خمس عشرة وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      في صفر منها كان قدوم علي بن عيسى بن الوزير من دمشق إلى بغداد وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق ، فمنهم من لقيه إلى الأنبار ومنهم دون ذلك . وحين دخل إلى الخليفة المقتدر خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته ، ثم انصرف إلى منزله ، فبعث وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار ، واستدعاه من الغد ، فخلع عليه ، فأنشد وهو في الخلعة :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا     يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وجاءت الكتب بأن الروم دخلوا سميساط وأخذوا جميع ما فيها ، ونصبوا فيها خيمة الملك ، وضربوا الناقوس في الجامع بها ، فأمر الخليفة مؤنسا الخادم بالتجهيز للمسير إليهم ، وخلع عليه خلعة سنية ، ثم جاءت الكتب بأن المسلمين وثبوا على الروم ، فقتلوا منهم خلقا كثيرا وغنموا غنائم كثيرة جدا ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 25 ] ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم ، فأعلمه بأن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذا دخل لوداعه ، وقد حفرت له زبية في دار الخلافة مغطاة ; ليتردى فيها ، فأحجم عن الذهاب ، وجاءت الأمراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة ، فبعث إليه المقتدر رقعة بخطه يحلف له فيها أن هذا الأمر الذي بلغه ليس بصحيح ، فطابت نفسه ، وركب إلى دار الخلافة في غلمان قلائل ، فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة ، وحلف له أنه طيب القلب عليه ، وله عنده الصفاء الذي يعرفه ، وخرج من بين يديه معظما مكرما ، وركب أبو العباس بن المقتدر ، والوزير علي بن عيسى ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه ، وكبار الأمراء بين يديه مثل الحجبة ، وكان خروجه يوما مشهودا ، قاصدا بلاد الثغور لقتال الروم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي جمادى الأولى قبض على رجل خناق ، قد قتل خلقا من النساء ; لأنه ادعى أنه يعرف العطف والتنجيم ، فقصده النساء لذلك ، فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ، فخنقها بوتر ، وأعانته امرأته على ذلك ، ثم حفر لها في داره فدفنها ، فإذا امتلأت تلك الدار انتقل عنها إلى غيرها . ولما ظهر عليه وجد في داره سبع عشرة امرأة قد خنقهن ، ثم تتبعت الدور التي سكنها ، فوجدوا شيئا كثيرا قد قتل من النساء ، فضرب ألف سوط ، ثم صلب حيا حتى مات ، قبحه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كان ظهور الديلم ببلاد الري فكان فيهم ملك غلب على أمرهم ، يقال له : مرداويج ، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من [ ص: 26 ] فضة ، ويقول : أنا سليمان بن داود . وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جدا ، فكان يقتل النساء والصبيان في المهود ، ويأخذ أموال الناس ، وهو في غاية الجبروت والشدة والجرأة على محارم الله ، عز وجل ، فقتله الأتراك ، وأراح الله المسلمين من شره ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند الكوفة ; سبقه إليها أبو طاهر ، فحال بينه وبينها ، فكتب إليه يوسف بن أبي الساج : اسمع وأطع ، وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال من هذه السنة . فقال : هلم . فلما تراءى الجمعان ، استقل يوسف بن أبي الساج ، وكان معه عشرون ألفا جيش القرمطي ، وكان معه ألف فارس وخمسمائة راجل ، فقال : وما قيمة هؤلاء الكلاب ؟ وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح قبل اللقاء إلى الخليفة ، فلما اقتتلوا ثبتت القرامطة ثباتا عظيما ، ونزل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي ، لعنه الله ، فحرض أصحابه ، وحمل بهم حملة صادقة ، فهزموا جند الخليفة ، وأسروا يوسف بن أبي الساج وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة ، واستحوذ على الكوفة وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد وشاع بين الناس أن القرمطي يريد أن يقصد بغداد ليأخذها ، فانزعج المسلمون لذلك ، وظنوا صدقه ، فاجتمع الوزير بالخليفة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الأموال إنما تدخر لتكون عونا على قتال أعداء الله ، وإن هذا الأمر لم يقع بعد زمن الصحابة أفظع منه ، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس ، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة ، وإن بيت المال ليس فيه شيء ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ، وخاطب السيدة - يعني أمه - فإن كان عندها مال قد ادخرته لشدة ، فهذا وقته ، فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك ، وبذلت له خمسمائة ألف [ ص: 27 ] دينار ، وكان في بيت المال مثلها فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تنفيذ الجيوش نحو القرامطة ، فجهز الوزير جيشا ; أربعين ألفا مع أمير ، يقال له : يلبق ، فأخذوا عليه الطرقات وكان يريد دخول بغداد ثم التقوا معه ، فلم يلبث جيش الخليفة أن انهزم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيدا في خيمة ، فجعل ينظر إلى محل الوقعة ، فلما رجع القرمطي قال : أردت أن تهرب ؟! ثم أمر به فضربت عنقه ، ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الأنبار ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة ، وكذلك الخليفة وأمه والوزير ; شكرا لله عز وجل على صرفه عنهم هذا الخبيث ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة بعث المهدي المدعي أنه فاطمي - الذي ظهر ببلاد المغرب - ولده أبا القاسم في جيش ، فانهزم جيشه ، وقتل من أصحابه خلق كثير .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      واختطت في هذه السنة المدينة المحمدية .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها حاصر عبد الرحمن بن الداخل الأموي مدينة طليطلة وكانوا مسلمين ، لكنهم نقضوا ما كانوا عاهدوه عليه ، ففتحها قهرا ، وقتل خلقا من أهلها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية