الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ابن الطيب : إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن ، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها ، وقدم المكي على المدني ، ومنهم من جعل في أول مصحفه " الحمد " ، ومنهم من جعل في أوله : اقرأ باسم ربك [ العلق : 1 ] ، وهذا أول مصحف علي رضي الله عنه . وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله : مالك يوم الدين [ الفاتحة : 4 ] ثم البقرة ثم النساء ; على ترتيب مختلف . ومصحف أبي كان أوله " الحمد لله " ، ثم " النساء " ثم " آل عمران " ثم " الأنعام " ثم " الأعراف " ثم " المائدة " ثم كذلك على اختلاف شديد . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة . وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة " براءة " وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولما لم يأمر بذلك في أول سورة " براءة " تركت بلا بسملة ; هذا أصح ما قيل في ذلك ، وسيأتي .

وذكر ابن وهب في جامعه قال : سمعت سليمان بن بلال يقول سمعت ربيعة يسأل : لم قدمت " البقرة " " وآل عمران " ، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة ؟ فقال ربيعة : قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه ، وقد اجتمعوا على العلم بذلك ، فهذا مما ننتهي إليه ، ولا نسأل عنه . وقد ذكر سنيد قال : حدثنا معمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال : قال ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، وأقومها هديا ، وأحسنا حالا ; اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . وقال قوم من أهل العلم : إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان عن توقيف من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك . روى يونس عن ابن وهب قال سمعت مالكا يقول : إنما ألف القرآن على ما كان يسمعونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد : أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ، ثم فرق على النبي - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة ، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث ، والآية جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وضع السورة والآية ; فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف ، فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام ، عن رب العالمين ; فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات ، وغير الحروف والكلمات ، ولا حجة على أهل الحق في تقديم " البقرة " على " الأنعام " ، " والأنعام " نزلت قبل " البقرة " لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ عنه هذا الترتيب ، وهو كان يقول : ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن . وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات .

حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء [ ص: 65 ] قال : آخر ما نزل من القرآن : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء : 176 ] . قال أبو بكر بن عياش : وأخطأ أبو إسحاق ، لأن محمد بن السائب حدثنا عن أبي السائب عن ابن عباس قال : آخر ما نزل من القرآن : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ البقرة : 281 ] . فقال جبريل للنبي عليهما السلام : يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة .

قال أبو الحسن بن بطال : ومن قال بهذا القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقوف عليه في المصحف ، بل إنما يجب تأليف سوره في الرسم والخط خاصة ، ولا يعلم أن أحدا منهم قال : إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه ، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف ; ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها للذي سألها : لا يضرك أية قرأت قبل ; وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصلاة السورة في ركعة ، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها . وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا ، وقالا : ذلك منكوس القلب ; فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ، ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ; ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ ، وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن ، لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها .

ومما يدل على أنه لا يجب إثبات في المصاحف على تاريخ نزوله ما صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية ، ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها : وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده - تعني بالمدينة - وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة ، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور .

قال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال : نزل بالمدينة من القرآن " البقرة " ، " وآل عمران " ، " " والنساء " ، " والمائدة " ، " والأنفال " ، " وبراءة " ، " والرعد " ، " والنحل " ، " والحج " ، " والنور " ، " والأحزاب " ، " ومحمد " ، " والفتح " ، " والحجرات " ، " والرحمن " ، " والحديد " ، " والمجادلة " ، " والحشر " ، " والممتحنة " ، " والصف " ، " والجمعة " ، " والمنافقون " ، " والتغابن " ، " والطلاق " ، " ويا أيها النبي لم تحرم " إلى رأس العشر ، " وإذا زلزلت " ، " وإذا جاء نصر الله " . هؤلاء السور نزلن بالمدينة ; وسائر القرآن نزل بمكة .

قال أبو بكر : فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة ، لم يدر أين تقع الفاتحة ، لاختلاف الناس في موضع نزولها ، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين ، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ، ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى . وقد قيل إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها ، وما تعرف من أفانين خطابها ومحاورتها ; فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو [ ص: 66 ] فقدوه من القرآن لقالوا : ما باله عري من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلى من نظامنا . قال عبيد بن الأبرص :


أن بدلت منهم وحوشا وغيرت حالها الخطوب     عيناك دمعهما سروب
كأن شأنيهما شعيب

أراد عيناك دمعهما سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا ، فقدم المؤخر وأخر المقدم ، ومعنى سروب : منصب على وجه الأرض . ومنه السارب ، للذاهب على وجهه في الأرض ، قال الشاعر :


أنى سربت وكنت غير سروب

وقوله : شأنيهما ، الشأن واحد الشؤون ، وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ، ومنها يجيء الدمع . شعيب : متفرق .

فصل - وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله ، فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه ، وأمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك ، وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا ، إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات .

وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ; وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية