الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

كتاب الكتابة

والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها وشروطها وأحكامها . [ أركان الكتابة ]

أما الأركان فثلاثة : العقد وشروطه وصفته ، والعاقد ، والمعقود عليه وصفاتهما ، ونحن نذكر المسائل المشهورة لأهل الأمصار في جنس جنس من هذه الأجناس .

1 - القول في مسائل العقد

فمن مسائل هذا الجنس المشهورة ، اختلافهم في عقد الكتابة : هل هو واجب أو مندوب إليه ؟ فقال فقهاء الأمصار : إنه مندوب ، وقال أهل الظاهر : هو واجب ، واحتجوا بظاهر قوله تعالى : ( فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ) والأمر على الوجوب .

[ ص: 700 ] وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل هو أن لا يجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب لئلا تكون معارضة لهذا الأصل ، وأيضا فإنه لما لم يكن للعبد أن يحكم له على سيده بالبيع له ( وهو خروج رقبته عن ملكه بعوض ) ، فأحرى أن لا يحكم له عليه بخروجه عن غير عوض هو مالكه ، وذلك أن كسب العبد هو للسيد ، وهذه المسألة هي أقرب أن تكون من أحكام العقد من أن تكون من أركانه .

وهذا العقد بالجملة هو أن يشتري العبد نفسه وماله من سيده بمال يكتسبه العبد .

فأركان هذا العقد الثمن والمثمون ، والأجل ، والألفاظ الدالة على هذا العقد .

فأما الثمن ، فإنهم اتفقوا على أنه يجوز إذا كان معلوما بالعلم الذي يشترط في البيوع . واختلفوا إذا كان في لفظه إبهام ما ، فقال أبو حنيفة ومالك : يجوز أن يكاتب عبده على جارية أو عبد من غير أن يصفهما ويكون له الوسط من العبيد ، وقال الشافعي : لا يجوز حتى يصفه .

فمن اعتبر في هذا طلب المعاينة شبهه بالبيوع ، ومن رأى أن هذا العقد مقصوده المكارمة وعدم التشاح جوز فيه الغرر اليسير ، كحال اختلافهم في الصداق . ومالك يجيز بين العبد وسيده من جنس الربا ما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبي من مثل بيع الطعام قبل قبضه ، وفسخ الدين في الدين ، وضع وتعجل ، ومنع ذلك الشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة القولان جميعا .

وعمدة من أجازه أنه ليس بين السيد وعبده ربا ; لأنه وماله له ، وإنما الكتابة سنة على حدتها .

وأما الأجل فإنهم اتفقوا على أنه يجوز أن تكون مؤجلة ، واختلفوا في هل تجوز حالة ، وذلك أيضا بعد اتفاقهم على أنها تجوز حالة على مال موجود عند العبد ، وهي التي يسمونها قطاعة لا كتابة . وأما الكتابة فهي التي يشتري العبد فيها ماله ونفسه من سيده بمال يكتسبه .

فموضع الخلاف إنما هو هل يجوز أن يشتري نفسه من سيده بمال حال ليس هو بيده ؟ فقال الشافعي : هذا الكلام لغو ، وليس يلزم السيد شيء منه ، وقال متأخروا أصحاب مالك : قد لزمت الكتابة للسيد ويرفعه العبد إلى الحاكم فينجم عليه المال بحسب حال العبد .

وعمدة المالكية أن السيد قد أوجب لعبده الكتابة ، إلا أنه اشترط فيها شرطا يتعذر غالبا ، فصح العقد وبطل الشرط .

وعمدة الشافعية أن الشرط الفاسد يعود ببطلان أصل العقد كمن باع جاريته واشترط أن لا يطأها ، وذلك أنه إذا لم يكن له مال حاضر أدى إلى عجزه ، وذلك ضد مقصود الكتابة .

وحاصل قول المالكية يرجع إلى أن الكتابة من أركانها أن تكون منجمة ، وأنه إذا اشترط فيها ضد هذا الركن بطل الشرط وصح العقد .

[ الألفاظ الدالة على هذا العقد ] واتفقوا على أنه إذا قال السيد لعبده : لقد كاتبتك على ألف درهم فإذا أديتها فأنت حر أنه إذا أداها حر . واختلفوا إذا قال له : قد كاتبتك على ألف درهم وسكت هل يكون حرا دون أن يقول له : فإذا أديتها فأنت حر ؟ فقال مالك وأبو حنيفة : هو حر ; لأن اسم الكتابة لفظ شرعي ، فهو يتضمن جميع أحكامه ، وقال قوم : لا يكون حرا حتى يصرح بلفظ الأداء . واختلف في ذلك قول الشافعي .

[ ص: 701 ] ومن هذا الباب اختلاف قول ابن القاسم ومالك فيمن قال لعبده : أنت حر وعليك ألف دينار ، فاختلف المذهب في ذلك ، فقال مالك : يلزمه وهو حر ، وقال ابن القاسم : هو حر ولا يلزمه .

وأما إن قال : أنت حر على أن عليك ألف دينار ، فاختلف المذهب في ذلك فقال مالك : هو حر والمال عليه كغريم من الغرماء ، وقيل : العبد بالخيار ; فإن اختار الحرية لزمه المال ونفذت الحرية وإلا بقي عبدا ، وقيل : إن قبل كانت كتابة يعتق إذا أدى ، والقولان لابن القاسم .

وتجوز الكتابة عند مالك على عمل محدود ، وتجوز عنده الكتابة المطلقة ، ويرد إلى أن كتابة مثله كالحال في النكاح .

وتجوز الكتابة عنده على قيمة العبد ( أعني : كتابة مثله في الزمان والثمن ) ، ومن هنا قيل إنه تجوز عنده الكتابة الحالة .

واختلف هل من شرط هذا العقد أن يضع السيد من آخر أنجم الكتابة شيئا عن المكاتب لاختلافهم في مفهوم قوله تعالى : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) ؟ وذلك أن بعضهم رأى أن السادة هم المخاطبون بهذه الآية ، ورأى بعضهم أنهم جماعة المسلمين ندبوا لعون المكاتبين .

والذين رأوا ذلك اختلفوا هل ذلك على الوجوب أو على الندب ؟ والذين قالوا بذلك اختلفوا في القدر الواجب ، فقال بعضهم : ما ينطلق عليه اسم شيء ، وبعضهم حده .

التالي السابق


الخدمات العلمية