الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين

خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين

خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين

خُزَيْمة بن ثابت الأنصاري الأوسي، صحابي جليل، شهد بدراً وأحداً، يُكَنَّى أبا عمارة، له ثمانية وثلاثون حديثا، تفرد له مسلم بحديث، وروى له الجماعة إلا البخاري، وهو المُلقب في السيرة النبوية بذي الشهادتين، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بمثابة شهادة رجلين.. وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يقول: "وكان خزيمة يُدْعَى ذا الشهادتين". ولأبي يعلى عن أنس رضي الله عنه: "أنه افتخر الأوس والخزرج، فقالت الأوس مِنَّا منْ جعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، وهو خُزَيْمة بن ثابت الأنصاري"..
عن عمارة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ابتاع (اشترى) فرسًا من أعرابيٍّ، واستتبعه ليقبض ثمنَ فرَسه، فأسرع النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبطأَ الأعرابيُّ، وطفِق الرجالُ يتعرضون للأعرابي، فيسومونه بالفرس (يريدون أن يشتروه منه)، وهم لا يشعرون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ابتاعه (اشتراه)، حتى زاد بعضُهم في السومِ على ما ابتاعه به منه، فنادى الأعرابيُّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: إن كنتُ مبتاعًا هذا الفرسَ وإلا بعتُه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداءَه، فقال: أليس قد ابتعتُه (اشتريتُه) منك؟ قال: لا واللهِ، ما بعتُكَه، فقال النبيُّ: قد ابتعتُه منك. فطفِق الناسُ يلوذون بالنبيِّ وبالأعرابيِّ، وهما يتراجعان وطفِق الأعرابي يقول: هلمَّ شاهدًا يشهد أني قد بعتُكَه، قال خزيمةُ بنُ ثابتٍ: أنا أشهد أنك قد بعتَه. قال: فأقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟ قال: بتصديقِك يا رسول الله، قال: فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادةَ خزَيمة شهادةَ رجلينِ) رواه النسائي. وفي رواية الحاكم: (أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ابتاع من سواء بن الحارث المحاربي فرسا فجحده، فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: ما حملك على الشهادة ولم تكن معه؟ قال: صدقت يا رسول اللَّه، ولكن صدّقتك بما قلت، وعرفتُ أنك لا تقول إلا حقاً، فقال: مَنْ شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه) . وفي رواية لأبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى فرساً من أعرابي، ولم يكن هناك أحد فأنكر الأعرابي بيع الفرس، فشهد خزيمة بأنه باعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تشهد ولم تكن حاضراً؟! قال: يا رسول الله، أُصَدِّقُكَ في كل ما جئت به من الله، أفلا أصدّقك في شراء الفرس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَْن شهد له خُزَيمة فحسبه).

هذا الموقف النبوي مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه كغيره مِنْ مواقفه صلوات الله وسلامه عليه، فيه مِنَ الفوائد الكثير التي ذكرها العلماء، ومنها:
قال ابن القيم: "وفي هذا الحديث عدة فوائد: منها: جواز شراء الإمام الشيء من رجل من رعيته.. ومنها: مباشرته الشراء بنفسه.. ومنها: جواز الشراء ممن يجهل، ولا يسأل من أين لك هذا؟.. ومنها: أن الإشهاد على البيع ليس بلازم.. ومنها: أن الإمام إذا تيقن من غريمه اليمين الكاذبة لم يكن له تعزيره، إذ هو غريمه.. ومنها: الاكتفاء بالشاهد الواحد إذا علم صدقه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لخزيمة: أحتاج معك إلى شاهد آخر، وجعل شهادته بشهادتين، لأنها تضمنت شهادته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق العام فيما يخبر به عن الله، والمؤمنون مثله في هذه الشهادة".
وقال الخطابي: "هذا حديث يضعه كثير مِنَ الناس غير موضعه، وقد تذرَّع به قوم مِنْ أهل البدع إلى استحلال الشهادة لمن عُرِف عنده بالصدق على كل شيء ادَّعاه، وإنما وجه الحديث ومعناه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم على الأعرابي بعلمه، إذْ كان النبي صلى الله عليه وسلم صادقاً باراً في قوله، وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله، والاستظهار بها على خصمه، فصارت في التقدير شهادته له وتصديقه إياه على قوله كشهادة رجلين في سائر القضايا". وفي "عون المعبود شرح سنن أبي داود": "شهادة خزيمة قد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بشهادتين دون غيره، وهذا المخَصِّص اقتضاه وهو مبادرته دون من حضر من الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قَبِل الخلفاء الراشدون شهادته وهي له خاصة".
وقال ابن تيمية: "قال القاضي أبو الطَّيِّب: وإن خص الشارع شخصاً بحكم يبقى الحكم خاصاً به ولا يتعداه إلى غيره بالقياس، كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه)، وهذه مَكْرُمَةٌ خاصة بخزيمة بعد شهادته بشهادتين، فلا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُه لأنه كرامة مختصة به، فلا يقاس عليه غيره". وقال المنذري: " وهذا الأعرابي: هو سواء بن الحارث، وقيل: سواء بن قيس المحاربي، ذكره غير واحد من الصحابة، وقيل: إنه جحد البيع بأمر بعض المنافقين..".
وفي "الروض الأنف في شرح السيرة النبوية"، و"شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية": "أنه عليه الصلاة والسلام ردَّ الفرس على الأعرابيّ، وقال: لا بارك الله لك فيها، فأصبحت من الغد شائلة برجلها، أي: قد ماتت". وقال الحافظ السندي في "شرح سنن النسائي": "والمشهور أنه صلى اللَّه عليه وسلم ردّ الفرس بعد ذلك على الأعرابي، فمات من ليلته عنده، واللَّه تعالى أعلم".

وأما السبب في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم خزيمة بن ثابت رضي الله عنه بقبول شهادته وحده، وجعلها كشهادة رجلين، فيقول ابن القيم: "وهذا التخصيص إنما كان لِمُخَصَص اقتضاه، وهو مبادرته دون مَنْ حضر مِنَ الصحابة إلى الشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بايع الأعرابي، وكان فرْض على كل مَنْ سمع هذه القصة أن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازم الإيمان والشهادة بتصديقه صلى الله عليه وسلم، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطَّن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه في كل ما يخبر به، فلا فرق بين ما يخبر به عن الله وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا، ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا، فلما تَفَطَّن خزيمة دون مَن حضر لذلك استحق أن تجعل شهادته بشهادتين".
وقال ابن حجر:" وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْفِطْنَة في الأمور وأَنَّهَا تَرْفع مَنْزِلة صاحبِها، لِأَنَّ السَّبَب الذي أَبْدَاه خُزَيْمة حَاصِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، يَعْرِفُه غَيْرُه مِنَ الصَّحابة، وَإِنَّمَا هو لَمَّا اخْتَصَّ بِتَفَطُّنِه لِمَا غَفَلَ عَنْه غَيْرُه مَع وُضُوحِه، جُوزِيَ على ذلك بِأَنْ خُصَّ بِفَضِيلة: (مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ أَوْ عَلَيْهِ فحسبه)". وقال ابن القيم: "وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته للأعرابي، وجعل شهادته بشهادتين لما استندت إلى تصديقه صلى الله عليه وسلم بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به، فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن الله، فبطريق الأَوْلَى يشهدون أنه صادق عن رجل من أمته".. ومعنى كون شهادة خزيمة رضي الله عنه بشهادتين، يعني أن شهادته وحده في الأمور التي لا تثبت إلا إذا شهد عليها رجلان كافية ومقبولة، وقد ظهرت قيمة هذه الخصوصية عندما أراد أبو بكر رضي الله عنه جمْع القرآن الكريم، وأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتتبعه ويجمعه. عن خارجة بن زيد أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نُسِخَتِ الصحفُ في المصاحف، ففقدتُ آيةً مِن سورة الأحزاب كنتُ أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلّا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الّذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين، وهو قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}(الأحزاب:23)) رواه البخاري.

مِنْ أهم مقاصد دراسة السيرة النبوية استخراج الدروس والعِبَر والفوائد مِنْ أحداثها ومواقفها، ليستفيد المسلم منها في واقع حياته، ويستظل بظلالها، وينعم بآدابها وأحكامها.. وقد جمعت السيرة النبوية حياة النبي صلى الله عليه وسلم وغزواته ومواقفه، والتي مِن خلال تأملها ودراستها يستنبط العلماء الأحكام الشرعية التي ينتفع بها المسلمون على مر التاريخ والعصور، ويتحول الحَدَثُ والموقف إلى دروس وعِبر، وحِكَم وأحكام، ومِن ذلك موقفه صلوات الله وسلامه عليه مع خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وقوله: (شهادة خُزَيْمَة بشهادة رجلين)..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة