الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السنن الإلهية في السنة النبوية (سنة التدرج)

السنن الإلهية في السنة النبوية (سنة التدرج)

 السنن الإلهية في السنة النبوية (سنة التدرج)


التدرج سنة ماضية في الخلق والتشريع، فقد خلق الله الأكوان، وأوجد البشر شيئا فشيئا، وخلق الإنسان أطوارا، ولو شاء لخلقهم دفعة واحدة في طرفة عين، ولكن حكمته اقتضت ذلك، وفي شرعه أنزل القرآن مفرقا منجما، وفرض شرائعه بتدرج حتى أكمل الدين وأتمه، فمضت سنة الله على ذلك، وجرت حياة الناس ومعايشهم على ذلك.

سنة التدرج في التغيير:
كما أن التغير لا يحصل فجأة واحدة، فكذلك التغيير لا يمكن أن يحصل دفعة واحدة، وإنما يحصل وفق ما اقتضته حكمة الله من تناقص الخير واتساع دائرة الشر، ثم يحصل العكس، وهكذا.
ففي مسند الإمام أحمد مرفوعا: « لا يلبث الجور بعدي إلا قليلاً حتى يطلع، فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره، ثم يأتي الله تبارك وتعالى بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله حتى يولَد في العدل من لا يعرف غيره».
يقول الدكتور محمد عمارة في مقال له بعنوان (سنة التدرج في الإصلاح): "دورات العدل والجور وحقب الصلاح والفساد هي السنة التي تحكم سير الاجتماع الإنساني، والتغيير في هذه الدورات محكوم بسنة التدرج، فبقدر الجور والفساد الذي يظهر وينمو يكون قدر العدل والصلاح الذي يتوارى، وكذلك الحال في الدورات العكسية، حتى لكأننا أمام التدرج في ظاهرتي الشروق والغروب للشمس مثلاً دونما "طفرة" أو "انقلاب فجائي"، بل إن ما يحسبه البعض "طفرة" أو "فجأة"، إنما هي لحظة في سلك التدرج وتوالي التطور والتغيير، والذين يفقهون حقيقة التغيرات التي أصابت الاجتماع الإسلامي بعد عصر النبوة، سواء منها التغيرات السلبية أو الإيجابية، والفساد الطارئ منها أو الإصلاح الذي غالَب الفسادَ وتدافع معه، سيجدون المصداق والتصديق لهذه السنة -سنة التدرج في التغيير- التي تحدث عنها هذا الحديث الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي حلية الأولياء للحافظ الأصبهاني: أن عبد الملك بن ‌عمر ‌بن ‌عبد ‌العزيز قال لأبيه عمر: ما يمنعك أن تنفذ لرأيك في هذا الأمر، فوالله ما كنت أبالي أن تغلي بي وبك ‌القدور في إنفاذ هذا الأمر، فقال عمر: "إني أروض الناس رياضة الصعب، فإن أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منية فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف".
سنة التدرج في الدعوة:
التدرج في الدعوة من ضمن الوصايا النبوية لمن كان يرسلهم من الصحابة في مهمات دعوية، كما في حديث ابن عباس يقول: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ‌معاذ بن جبل إلى نحو أهل ‌اليمن، قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوَقَّ كرائم أموال الناس». رواه البخاري في صحيحه.
فهذا توجيه نبوي بالتعامل مع المدعوين وفق التدبير الإلهي القائم على التدرج في الخلق والتشريع، لكن الذي يجب التنبيه إليه أن أمور العقائد لا تقبل التجزئة ولا التدرج، بل هي الأساس الذي يبنى عليه غيره، فكان لا بد من الدخول فيها جملة واحدة.
فقد جاء في سنن أبي داود عن عثمانَ بن أبي العاصِ: أن وَفْدَ ‌ثَقيف لما قدموا على رسولِ الله -صلَّى الله عليه وسلم- أنزلَهم المسجدَ، ليكون أرقَّ لِقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يُحْشَروا ولا يُعْشَرُوا ولا يُجَبُّوا، فقال رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلم-: «لكم أن لا تُحشَروا ولا تُعشَروا، ولا خيرَ في دِين ليس فيه ركوعٌ». وفي رواية: «سيتصدّقون ويُجاهدون إذا أسلَموا». قال ‌المغيرة بن شعبة كما أورد ابن سعد في الطبقات: "فدخلوا في الإسلام فلا أعلم قوما من العرب بنى أب ولا قبيلة كانوا أصحّ إسلامًا ولا أبعد أن يوجد فيهم غِشّ للَّه ولكتابه منهم".
قال الخطابي: قوله: "لا تحشَروا" معناه: الحشر في الجهاد والنفير له، وقوله: "وأن لا تعشروا" معناه: الصدقة، أي: لا يؤخذ عشرُ أموالهم، وقوله: "أن لا يُجَبُّوا" معناه: لا يصلُّوا، وأصل التجبية أن يكبَّ الإنسان على مُقَدَّمِه ويرفع مُؤخِّره.
ولكنهم لما اشترطوا أن يبقي لهم اللات ثلاث سنين أبى عليهم ذلك، فالتوحيد لا يقبل التأخير ولا التدرج، وعليه فإن من حكمة الدعوة إلى الإسلام أن يبدأ الداعي بأصل الأصول وهو التوحيد، ولا يبدأ بإنكار الأمور التي تحتمل التأخير، فقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي في برنامجه (نور وهدى): أن بعض علماء الدولة العثمانية في القرن الماضي حين بعث بعضُ القياصرة للخليفة العثماني مبدياً رغبته في اعتناق الإسلام هو وأركان دولته، فأرسل لهم وفداً من العلماء، وهيا لهم استقبالا ضخما، وأعدت لهم مأدبة فاخرة من الطعام، وعليها زجاجات من الخمر، فثارت ثورة العلماء على رؤية هذا المنكر، وبدأوا ببيان حكم الله في الخمرة، وتحريمه لها، وعقوبة من يتعاطاها، فقال لهم القيصر: إذن لا حاجة لنا بما عندكم.
وقد كان عليهم مراعاة سنة التدرج في حق هذا القيصر وأتباعه، بحيث يرجئون بيان حكم الخمر إلى بعد دخولهم في الإسلام، كما تدرج الوحي مع الصحابة أول الأمر، فقد كان العهد المكي كله في التأسيس والإعداد الإيماني والروحي، ثم جاءت الشرائع، وتفصيل الحلال والحرام، ونفوسهم في غاية الاستسلام والطواعية لشرائع الإسلام وتكاليفه.

والتدرج منهج مهم في سياسة النفس حتى تبلغ ذروة الصلاح والتقى، فالإنسان لا يزال يترقى في درجات العبودية، ومقامات المجاهدة شيئا فشيئا حتى يبلغ درجات الولاية، وكل ذلك بالتدرج وتأهيل النفس بالعبادات الظاهرة والباطنة.
ففي المعجم الكبير للطبراني عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالعداوة، ابن آدم لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك، ‌ولا ‌يزال ‌عبدي يتحبب إلي بالنوافل حتى أحبه، فأكون قلبه الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق به، وبصره الذي يبصر به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصرني نصرته وأحب عبادة عبدي إلي النصيحة» وأصله في صحيح البخاري.
والتدرج منهج نبوي في استصلاح أحوال الناس، حتى يتخلصوا من عوائدهم وما غلب عليهم من الطبائع والأحوال الناقصة، ففي مسند أبي يعلى بإسناد صحيح عن أبي سعيد قال: جاءت امرأة صفوان بن المعطل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن صفوان يضربني إذا قرأت، وينهاني أن أصوم، ولا يصلي حتى تطلع الشمس، فقام صفوان فقال: أما قولها: يضربني، فإنها تقرأ بسورتي، (وفي بعض الروايات: "فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها عنها" أي: تقرأ بسورتين طويلتين) وأما قولها: ينهاني أن أصوم، فأنا رجل شاب، وأما قولها: لا يصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت يعرف لنا ذلك: لا نستيقظ حتى تطلع الشمس، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصومي إلا بإذنه، ولا تقرئي سورته، وأما أنت ‌يا ‌صفوان فإذا استيقظت ‌فَصَلِّ» ‌والحديث قد ضعفه بعض أهل الحديث، ولكن صححه ابن حبان، والحاكم، وابن حجر في الإصابة.

ومن باب الفائدة فإنه لا يصلح لمن اعتاد النوم عن الصلاة أن يحتج بهذا الحديث؛ فإن شراح الحديث قد حملوه على أن الذي كان بصفوان عذر جعله كالعاجز، وهو ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار قيامه للصبح كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، كما أشار إلى ذلك الخطابي في معالم السنن، وغيره من شراح الحديث.
وعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على صفوان قد يكون موضع تعجب، ولكن من عرف منهج النبوة في استصلاح الخلق، والتدرج في ذلك عرف أن هذا من سعة رحمة الله بعباده، قال صاحب عون المعبود في تعليقه على هذا الحديث: ذلك أمر عجيب من لطف الله -سبحانه- بعباده، ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، فعذر فيه، ولم يثرب عليه، ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه، ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال. انتهى.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة