الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

موانع تدبر القرآن الكريم

موانع تدبر القرآن الكريم

موانع تدبر القرآن الكريم

عبر القرآن الكريم عن الموانع التي تَحُول بين قارئ القرآن وتدبر المراد منه بـ الأقفال، وذكر سبحانه القلوب المقفلة في سياق ذكر المقابل للتدبر، قال سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} (محمد:24) و(الأقفال) جمع قُفْل، وهو استعارة مكنية؛ إذ شبهت القلوب، أي: العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة.

ونقل ابن كثير عن الطبري بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا يوماً: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}، فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله عز وجل يفتحها، أو يفرجها. فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي، فاستعان به.

والموانع التي تحول دون تدبر القرآن الكريم كثيرة، ويمكن إرجاعها إلى ثلاثة أقسام: موانع ذاتية، وموانع خارجية، والقسم الثالث يختص ببروز التكلف، وطغيان الاهتمام بالشكل على حساب المعنى أو المضمون، وبيان ذلك:

أولاً: موانع ذاتية: المراد بها الموانع النابعة من داخل الفرد نفسه، سواء كانت هذه الأقفال مرتبطة بالعقل أو بالقلب أو بالعمل، وتوضيح ذلك وفق الآتي:

1- الموانع العقلية: تتمثل الموانع العقلية في أشكال عدة، منها:

- القراءة الجزئية: إن اسم القرآن يحتم القراءة الواعية الكلية؛ لأنه يحمل معنى الضم والجمع، حيث لا بد من جمع سائر المفردات ذات الصلة بالموضوع الواحد، حتى يكون تدبر النصوص صحيحاً، لكن القراءة الجزئية تتجه لبعد واحد، ليحدث بذلك الانحراف عن المسار الصحيح؛ فالذي يقرأ القرآن من غير تدبر آياته سيقع في فخ القراءة الجزئية، وهؤلاء هم الذين عناهم القرآن بقوله: {الذين جعلوا القرآن عضين} (الحجر:91) وبالتالي فإنه فسيخل بائتلاف مشاهده، واقتران معانيه ببعضها، وقد يتخيل معاني متباينة وموضوعات متنافرة، وبهذه القراءة سيكون في تأويله وفهمه على غير الجادة. وغير بعيد أن تصبح مثل هذه القراءة الجزئية أداة دافعة لإيقاظ التعصب المذهبي والطائفي، بل والتعصب الفكري والفقهي.

- الجهل بقواعد العربية وأساليبها البلاغية: لا يعرف القرآن ولا يدرك مقاصده ومراميه إلا من كان على بينة من قواعد العربية وأساليبها، وقد قرر العلماء أهمية معرفة العربية لمن يريد دراسة القرآن وتدبره وفهمه؛ إذ إن الجهل بالعربية يؤدي إلى التأويل الفاسد لآيات القرآن.

- الجهل بمقاصد الشريعة: مما هو مقرر في قواعد التفسير أهمية معرفة مقاصد الشريعة؛ إذ إن معرفتها يساعد على إدراك مرامي الآيات ومرادها، والجهل بها يفضي إلى عدم تدبر مراد الله، ويُعدُّ مانعاً مهمًّا من موانع التدبر والفهم لكتاب الله.

- التنكب العقلي: المراد بهذا المانع تعطيل جهاز الوعي في الإنسان، بحيث يتنكب الإنسان الطريق، وينقلب على عقيبه، فيرى الأشياء مقلوبة، {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم} (الملك:22) وأنى لمن يتنكب الطريق، فيمشي ورأسه على الأرض ورجلاه إلى السماء أن يتدبر آيات الله؟ وهذا ما يفسر شذوذ القراءات المعاصرة للقرآن. ويدخل في هذه الدائرة أصحاب الأهواء والشهوات، {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} (الجاثية:23) فالأهواء من الموانع التي تحول بين المرء وبين التدبر الأمثل لكتاب الله، واتباع الأهواء يطبع على القلب حتى يعجز العبد عن الإدراك السوي والفهم السليم، {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم} (محمد:16). وفي السياق ذاته غفلة القلب، {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} (الكهف:28) وغفلة القلب ثمرة لما كسبت يد العبد، وإذا غفل القلب لم يعد يعي الحقائق، {أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون} (بونس:42) فلما أصموا قلوبهم، وأغلقوا عقولهم، لم يعودوا يسمعوا أمراً، ولم يفقهوا قولاً؛ فالسماع النافع للمستمع هو ما عقل به ما يسمعه وفقهه وعمل بمقتضاه، فمن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع.

2- الموانع القلبية: بعيداً عن الموانع العقلية ثمة موانع أخر تحول بين المرء والتدبر لكتاب الله، هذه الموانع مرتبطة بالقلب، ونستحضر هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صَلَحَتْ، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) رواه مسلم. وتتمثل الموانع القلبية في الآتي:

- انعدام الإيمان: قال سبحانه: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} (النحل:105) فعدم الإيمان بآيات الله يعد مانعاً آخر من موانع التدبر لكتاب الله؛ لأن الكافر بآيات الله يشمئز عند سماع كلام الله، فكيف له أن يتدبره ويعيه؟ {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} (الزمر:45). وجاء حديث القرآن صريحاً عن الأكنة والأوقار، وهي نوع من الأقفال التي تمنع العقل من الفهم، وتمنع القلب من الاقتناع، ما يدفع أصحابها للنفور والتولي على الأعقاب، {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا} (الإسراء:46).

- آفة الكِبر: والكِبر من الآفات التي تمنع من سماع آيات الله، قال سبحانه: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} (الأعراف:146) فأخبر سبحانه أنه سيصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، فَهُم عن فَهْمِ جميع آياته والاعتبار والادكار بها مصروفون؛ لأنهم لو وفقوا لفهم بعض ذلك، وهدوا للاعتبار به، لاتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم؛ لأنه جل ثناؤه قال: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها}، فلا تبديل لكلمات الله. وفي معرض تعليل الله سبحانه لكثير من صور الإعراض عند المشركين، نجد أن (الكبر) حاضر فيها، كما في قوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها} (لقمان:7) وقوله عز وجل: {يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها} (الجاثية:8) فإن الكبر يستحيل إلى مادة صمغية، تمنع المتكبر من سماع آيات الله، ما يدفعه للإعراض والتولي، وهكذا ينتصب (الكبر) كمانع أساس من موانع السماع، فضلاً عن التدبر العميق لكتاب الله. ويخبرنا القرآن الكريم أيضاً أن الاستكبار هو المقدمة الأساس للإجرام؛ ولذك قرن سبحانه بينه وبين الإعراض عن آيات الله، وعدم الاستماع لما تحتويه من أوامر وزواجر، {وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين} (الجاثية:31).

- أمراض القلوب: أصحاب القلوب المريضة لا يمكنهم تدبر القرآن؛ إذ يمسي هذا المرض القلبي قيداً على القلب، يمنعه من التدبر، ويحرمه من تلقي أنوار الهداية. وأمراض القلوب عديدة، نذكر منها:

- الطبع: وقد ذكره القرآن في أحد عشر موضعاً. و(الطَّبْع) هو الختم والران. وقد طبع الله على قلوب الكافرين والمنافقين بكفرهم وعنادهم ومكرهم، قال سبحانه: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} (المنافقون:3) وقال عز وجل: {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء:155).

- انطماس الأبصار والبصائر: ومن موانع التدبر انطماس البصر والبصيرة؛ وذلك جراء المعاصي والذنوب، {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} (يس:66).

- الأكنة: ورد ذلك في قوله سبحانه: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} (الأنعام:25) وقوله عز وجل: {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} (الكهف:57)، ولو تأملنا في السياق الذي وردت فيه هاتان الآيتان ونحوهما لوجدنا أن هذه الموانع عقوبات مستحقَّة نتيجة جهل بني الإنسان لواجبهم نحو ربهم، وأيضاً لظلمهم أنفسهم بإعراضهم عن هدي خالقهم.

- الران: قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين:14).

وأقل أمراض القلوب خطورة هي الغفلة عن التدبر، نتيجة قلة العلم، المفضي إلى عدم إدراك أهمية التدبر، أو كثرة المشاغل. وقد تأتي الغفلة بمعنى عدم الخشوع، قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} (الحديد:16)

3- الموانع العملية: ثمة موانع لا تختص بالعقل أو القلب، ولكن تصيب الأعمال، وأهمها مانعان:

- الغفلة وعدم وجود إرادة التدبر: قال تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} (الأعراف:179) قال الطبري في تفسيره للآية: "هؤلاء الكفرة الذين ذرأهم لجهنم، أشد ذهاباً عن الحق، وألزم لطريق الباطل من البهائم؛ لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز، فتختار وتميز، وإنما هي مسخرة، ومع ذلك تهرب من المضار، وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، مع ما أعطوا من الأفهام والعقول المميزة بين المصالح والمضار، تترك ما فيه صلاح دنياها وآخرتها، وتطلب ما فيه مضارها، فالبهائم منها أسدُّ، وهي منها أضل...وهؤلاء الذين وصفت صفتهم، القوم الذين غفلوا عن آياتي وحججي، وتركوا تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على ما دلت عليه من توحيد ربها، لا البهائم التي قد عرفها ربها ما سخرها له". إن استمداد هداية القرآن رهين بمشيئة الإنسان، الذي يملك أن يتدبر كلام خالقه، فيفهم مراده، ويعمل بمقتضاه، أو يعرض فينحرف عن الجادة، {إن هو إلا ذكر للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم} (التكوير:27-28).

ومن العلل العملية (الانصراف) عن آيات القرآن، {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} (التوبة:127) قال الطبري: "وإنما فعل الله بهم هذا الخذلان، وصرف قلوبهم عن الخيرات، من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه، استكباراً، ونفاقاً".

- الذنوب: تعد الذنوب آصاراً وأغلالاً تمنع الحواس من تدبر كتاب الله والوقوف على مراده، ، كما أنها تعمي قلب العبد، فيصبح غير قادر على تدبر كلام ربه، {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} (المطففين:14) ومن كانت هذه حاله لا يفقه القرآن، ولا ينتفع به. كذلك فمن الذنوب التي تحرم العبد من نعمة التدبر لكتاب الله (الظلم) {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} (الإسراء:82). وأيضاً قطيعة الرحم تمحق جهاز الوعي لدى العبد، وتطمس على قلبه، ومن ثم يفقد أداة الوصول إلى مراد خالقه، {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} (22-23).

ثانياً: الموانع الخارجية: ليس المراد من كون هذه الموانع خارجية أن الإنسان ليس له دور فيها، بل هو الذي يوجِد القابلية لها في شخصيته، أو يرفضها بفهمه وإخلاصه. ومن هذه الموانع:

1- الأموال والبنون: الأموال والبنون من زينة الحياة الدنيا التي أوجدها سبحانه لعباده، لكن عندما تتسلل هذه الزينة إلى قلب المسلم وتشغله عن ربه فهنا تكون المشكلة، ولذا عاب القرآن الالتهاء بهذه الزينة، {ألهاكم التكاثر * حتى زرتم المقابر} (التكاثر:1-2)، ونهى المؤمنين أن يلتهوا بهذه الأمور عن ذكر الله، ومن جملته تدبر القرآن، {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} (المنافقون:9). وقد بين القرآن أن الأموال والأولاد عندما يدخلون إلى القلب، ويصبحون غاية، فإنهم يكونون فتنة على الإنسان نفسه، {إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} (التغابن:15) بل يصبحون عدواً للإنسان، {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم} (التغابن:14). ويندرج في هذه البابة الانشغال بالبحث عن الرزق، بحيث يصبح تحصيله أكبر هم المسلم، وغاية رغبته، ومبلغ علمه، فكل ذلك يكون عائقاً ومانعاً من التدبر لكتاب الله.

2- التقليد الأعمى: المقلد عن غير دليل أعمى القلب، لا يمكن أن يفهم عن القرآن، {إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور} (فاطر:22) ومن يعيش في قبور التقليد الأعمى لا يمكن أن يسمع صوت القرآن، ولا أن يتدبر معانيه، ولا أن يصل إلى مراميه. وقد قال سبحانه: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} (البقرة:171) قال الرازي: "فمثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم، فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائدة، فكذا التقليد عبث عديم الفائدة".

3- الصحبة السيئة والقطيع الاجتماعي: سجل القرآن نموذجاً لصديق السوء، الذي أضل صاحبه عن القرآن، وصور ندمه يوم القيامة، ووصفه بـ (الظالم) لأنه ظلم نفسه باتخاذه صديق السوء خليلاً، {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا} (الفرقان:29) فإذا لم يكن العبد مرتبطاً بمصدر التلقي الرباني، فلا شك أنه سيجد نفسه في جهالة عمياء، لا يدري إلى أين يسير، ولا إلى أين هو ذاهب، ويجد نفسه مع القطيع الاجتماعي، ويصبح هذا القطيع قيداً يمنع العقل من العمل، ويشل الفكر من الحركة.

4- الشيطان: هذا المانع هو أُسُّ الموانع من تدبر كتاب الله، فما من باب أغلق أمام تدبر القرآن إلا كان للشيطان فيه النصيب الأوفى؛ فالشيطان هو صاحب المصلحة الأولى من عدم تدبر الإنسان لآيات ربه؛ لأن عدم التدبر يعني الانصراف عن هذه الآيات، وعدم الاستفادة من هدايتها، ما يعني انحراف العبد عن الجادة والوقوع في الضلال المبين، وهذا ما يريده الشيطان ويسعى إليه، ولأجل هذا فقد قرن سبحانه ذكر الشيطان بآية التدبر المركزية في القرآن، قال تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} (محمد:25). ولعلم الشيطان بعظم تأثير القرآن على النفوس، فإنه يعمل جاهداً لصرف العباد عن قراءة القرآن، وأقسم على نفسه أن يغلق الباب أمام العباد في فهم وتدبر كتاب ربهم، {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (الأعراف:16) والقرآن هو الذي {يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} (الأحقاف:30).

ثالثاً: بروز التكلف، وطغيان الاهتمام بالشكل على حساب المضمون: من موانع التدبر التي تحول بين العبد والتدبر لكتاب الله: التكلف المجافي للمنهج القرآن والنبوي، والاهتمام بالأشكال والمظاهر على حساب المضمون والجواهر، وبيان ذلك:

1- التكلف: اسم لم يُفعل بمشقة أو تصنُّع، وهو على ضربين: محمود ومذموم. والمذموم هو ما يتحراه الإنسان مراءاة ومصانعة، وهو المراد بقوله سبحانه: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} (ص:86) أي: المتصنعين المتقولين على الله. وقد كان الصحابة الكرام أفضل الناس تدبراً للقرآن، وكانوا أبعد الناس عن التكلف، ولم يخضوا في المتشابه، ولم يخوضوا في تفسير الحروف المقطعة. والتكلف في التعامل مع القرآن يخرج الدين من سجيته الجميلة، وفطرته السهلة، {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم:30) والله سبحانه يبن أن حقائق الدين تتجلى وتنكشف من النظر والتدبر لآيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق، {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت:53)

2- طغيان الاهتمام بالشكل على حساب المضمون: يصير هذا الأمر مانعاً من موانع التدبر عندما يقتصر الاهتمام على المباني دون المعاني، أو ينصب الاهتمام على الوسيلة أكثر من الغاية، وكذلك الاهتمام بكثرة التلاوة على حساب الفهم والتدبر والعمل. ويخبر الواقع أن هذا المانع من أكثر الموانع التي تحول بين العبد وتدبر القرآن في هذا العصر، وذلك أن كثيراً من الجهود تهتم بالشكل على حساب المضمون، وبالكم على حساب الكيف، فمثلاً الاهتمام بتحفيظ القرآن دون الاهتمام بفهمه وتدبره، والاهتداء بهديه لا يؤدي إلا نتائج متواضعة؛ إذ المطلوب الاهتمام بالفهم والتدبر ومن ثم العمل. ويدخل في هذا الباب الاهتمام بتفاصيل القصص القرآني دون الاعتناء باستنباط العبر والعظات، التي يمكن أن تؤسس لعلوم التاريخ والاجتماع والنفس والفكر السياسي.

هذه أهم موانع تدبر القرآن الكريم، والتفاعل معه، والتأثر به، وهي للأسف حاضرة بقوة وفاعلة في العقل والواقع الإسلاميين. والمخرج من هذا الوقوف على مفاتيح التدبر، وهو ما سيكون موضوع مقال آتٍ.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة