معنى الولاية
والولاية مصطلح قرآني، تردد في مئات المواضيع من القرآن والحديث، ومعناه: القيام بأمور الآخرين كلها. والولي هـو القائم بأمور غيره من الأمة المسلمة في الميادين المتفرعة عن عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، بالطريقة التي أمر الله. أي أن الولاية مصطلح اجتماعي يعني: ولاء الفرد المسلم للأفكار التي جاءت بها الرسالة الإسلامية، أكثر من ولائه لنفسه، وهو يجسد هـذا الولاء من خلال الإسهام مع المسلمين الآخرين - في تحويل الأفكار المذكورة إلى تطبيقات عملية، تتمثل في عناصر: الإيمان، والهجرة، والجهاد، والرسالة، والإيواء، والنصرة، بين الأفراد الذين يشتركون في الإيمان بالأفكار الإسلامية المشار إليها. فالولاية إذن هـي هـيمنة روح الشعور بالمسئولية في السلوك والعلاقات والحاجات، وقيام الأفراد والمؤسسات والجماعات برعاية شئون بعضهم بعضا، في ميادين الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والزراعة، والصناعة، والفكر، والثقافة، والتوجيه، والتعليم، والحرب، والسلام، والأمن، والخطر، وغير ذلك.
وممن هـذه الولاية والرعاية اشتقت مصطلحات " أولي الأمر " و " الولاة " والذين يحسنون هـذه الولاية والرعاية – " كل في ميدانه " ويلتزمون في ولايتهم ورعايتهم [ ص: 103 ] لشئون غيرهم أوامر الله وتوجيهات حق الالتزام، دون أن تفتنهم المغريات - هـم (أولياء الله) . وبذلك يكون (ولي الله) هـو من يلتزم أوامر الله حق الالتزام في ميادين: الاجتماع، والسياسة، والإدارة، والعسكرية، والاقتصاد، والتربية، والفكر، والثقافة، والتوجيه، والجهاد، والأمن، وغير ذلك. وبهذا المعنى كان أبو بكر وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وليين لله في ميدان الحكم والسياسة، وكان خالد بن الوليد ولي الله في ميدان العسكرية، وكان معاذ بن جبل ولي الله في ميدان التربية والتعليم، وكان عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وليين لله في ميدان التجارة والأعمال، وكان هـناك ولي الله الزارع، وولي الله الصانع، وولي الله الشرطي، وولي الله الإداري، وهكذا مادام الكل يعملون حسب أوامر الله ونواهيه، ويتقونه حق تقاته.
ولعله من الواجب هـنا أن نشير إلى أمرين.. الأول: التشويه الخطير الذي أصاب مصطلح " الولاية " في التربية الإسلامية حين أخرجت الولاية من محتواها الاجتماعي وصار (ولي الله) هـو الدرويش الأهبل المنسحب من الحياة، الفاقد للإحساس بها، العاجز عن العمل، الخانع أمام الأعداء، القانع بالذل والفاقة والعجز والقذارة، وإذا أهلكه الجوع والمرض والجهل، أقيمت له النصب والأضرحة، وصار صنما تذبح عنده القرابين، وتلوذ به الجماهير، التي تعاني من الظلم والفاقة والقهر والاستغلال. وفي الأصل كان وراء هـذا التشويه لمعنى الولاية عقليات ماكرة من سلالات المترفين، الذين سلبهم الإسلام نفوذهم على الناس، وتحكمهم بمقدرات الحياة، فعملوا على استرجاع ما فقدوه من امتيازات بوسائل التشويه الثقافي والتربوي، وتشويه المصطلحات والمبادئ، وأنماط المعتقدات والسلوك، بعد أن عجزوا عن استرجاع امتيازاتهم بالوسائل العسكرية، ثم استحسن هـذه السياسة الظلمة من السلاطين والحكام، لصرف الأنظار عن احتكاراتهم وسياساتهم الجائرة. ولعل ما كتبه المقريزي في الخطط عن سياسة سلاطين المماليك في بناء الأضرحة، وتشجيع طريقة الدروشة، ومواقف ابن تيمية وكتاباته ضد هـذه السياسات مثلا واضحا وشواهد لهذه السياسات الجائرة المشار إليها. ولقد حذت حذو هـذه السياسة واستثمرت التراث السلبي الممثل لها دوائر الاحتلال الاستعماري في المغرب العربي، وأفريقيا، والهند، وغيرها.
والثاني: موقع الولاية - حسب المفهوم الإسلامي - في سلم محاور الولاء وضرورتها في المجتمعات المعاصرة.
لقد تطور مفهوم الولاية - أو الولاء - بتطور المجتمعات البشرية. فحين كان المجتمع الإنساني يتمثل في العائلة، تحدد إطار الولاء بالعائلة، وحينما أصبح المجتمع البشري هـو القبيلة، تحدد إطار الولاء بحدود القبلية، وحينما أصبح المجتمع البشري هـو [ ص: 104 ] القوم تحدد إطار الولاء بحدود القومية. وحينما تهدمت الحدود الجغرافية والثقافية بين المجتمعات البشرية، جاءت الرسالة الإسلامية برباط الولاية الواسع الذي يفتح الباب لكل عضو في الإنسانية الانضواء في عقده.
ولعل مما تفرضه مبادئ النقد الذاتي أن نقول: إن جيل الصحابة قد جسد " رباط الولاية " بأوسع دوائر الولاء؛ فضحوا بأنفسهم وأموالهم لإخراج الناس إلى عدل الإسلام، وسعة الدنيا والآخرة، ثم تلتهم أجيال ارتد بعضها إلى محاور الولاء القومي أو الشعوبي، ثم إلى محاور الولاء الإقليمي، ثم إلى محاور الولاء القبلي. فالإنسان الحاضر في بلاد الإسلام يتحدد محور ولائه بحدوده الإقليمية، وليس لديه مفهوم واضح عما يعنيه الولاء للأمة المسلمة الوحدة.