ثانيا: تحليل أهداف النظم التعليمية السائدة
ما من نظام تعليمي إلا وله جملة من الأهداف والغايات التي يسعى إلى تحقيقها من خلال العملية التعليمية. وتنبثق الأهداف في أغلب الأحيان عن المرجعية، التي تشكل القاعدة المنتجة والموجهة للأهداف، الأمر الذي يعني وجود علاقة جدلية ترابطية بين المرجعية والأهداف، فإذا كانت مرجعية نظام ما مادية، فإن أهدافه تغدو هـي الأخرى -في أغلب الأحيان- مادية، وإذا كانت مرجعيته روحية، فإن ذلك سينعكس على الأهداف، وكذلك الحال فيما لو كانت مرجعيته مادية روحية، فإن أهدافها ستصبح أهدافا مادية روحية مترابطة. ولهذا فإن نفي وجود مرجعية عن نظام تعليمي، نفي غير مباشر لوجود أهداف له، وقد أثبتنا عدم صحة ذلك من ذي قبل.
وبطبيعة الحال، ثمة تفاوت بين درجات الأهداف وأهميتها، وهنالك في أكثر الأحيان هـدف كلي أسمى وأعلى لكل نظام تتمحور حوله بقية الأهداف، وهذا الهدف الكلي العام للنظم التعليمية السائدة، الغربية والشرقية، هـو الذي سنوسعه جانب التحليل والتوضيح، ولا نرى حاجة للتطرق إلى الأهداف الجزئية المختلفة.
وبناء على ذلك، فما هـو الهدف الأسمى لهذه النظم التعليمية، وما مدى علاقته بالقارة الإفريقية ؟ [ ص: 66 ]
هـدف النظم التعليمية الغربية
تربية النزعة الفردية، فإنتاج الفرد المادي
تتوافر النظم التعليمية الغربية على اعتبار إنتاج فرد مادي (مواطن صالح) أسمى غاية وأعلى هـدف يرجى ويتوقع من العملية التعليمية، وبالتالي فإن الاهتمام بتربية النزعة الفردية، وتمجيد الملكية الفردية والدفاع عنها بكل غال ورخيص مبدأ لا يتنازع حوله، ولا يقبل أدنى مساومة أو تبديل، إذ ترى تلك النظم أن زرع النزعة الفردية هـو الوسيلة العليا لإنتاج فرد حريص على مصالحه الخاصة، وجاد في تحقيق رغباته وشهواته المختلفة بشتى الطرق والوسائل، ولذلك فإن الفرد في هـذه المجتمعات لا يرى لنفسه قيمة ولا وزنا إذا عجز عن تلبية رغباته الآنية والمستقبلية.
وبما أن تحقيق ملكية فردية يتوقف على تمتع الفرد برغبة جامحة في العمل والجدية، والنشاط المضاعف، لذلك يجد المرء مبدأ العمل في هـذه المجتمعات مبدأ أساسيا ومهما للبقاء، وأضف إلى ذلك أن العمل أيا كان نوعه في هـذه المجتمعات، مقدس ومقبول وصحي، مادام يحقق للفرد حيازة مال، فليس في هـذه المجتمعات عمل دنيء أو وضيع أو شريف، فشرف العمل ودناءته مرتبط بناتجه، فالعمل الذي يترتب عليه جني نتائج جمة هـو العمل الشريف والعظيم، وأما العمل الذي [ ص: 67 ] يترتب عليه جني نتائج ضئيلة هـو العمل الوضيع الدنيء، والوسائل التي توصل إلى هـذه النتائج كلها نسبية وغير ثابتة، فقد يكون الصدق قيمة عظيمة إذا كان ينتج عن الالتزام به تحقيق فوائد كثيرة، وربما كان قيمة دنيئة غير معتبرة إذا كان الناتج عنه ضحلا وضئيلا، وكذلك الحال في الأمانة والوفاء والإخلاص، وغيرها من القيم التي لا تتكامل سعادة في الحياة بدونها.
وأيا ما كان الأمر، فإن النظم التعليمية تصمم في هـذه المجتمعات هـادفة إلى تحقيق هـذا المبدأ، مستندة إلى وحي مرجعية العلمانية، التي تقصي المبادئ والقيم الإلهية عن دائرة التوجيه والإرشاد، وتوكل إلى العقل والذوق البشريين مهمة تحديد المبادئ والقيم، التي ينبغي اعتمادها والرجوع إليها.
هـدف النظم التعليمية الشرقية
تربية النزعة الجماعية، فإنتاج مجتمع مادي
لقد أسلفنا القول: بأن الفكرة الشيوعية التي تعتنق المادية الجدلية قد نشأت كردة فعل على الفكرة الرأسمالية، التي تتبنى العلمانية القائمة على تأليه الملكية الفردية، والدفاع عنها، بالتالي فإنه من الأمر الجلي الانتهاء إلى القول: بأن الهدف الأسمى والغاية العليا من النظم التعليمية الشرقية: تربية النزعة الجماعية لإنتاج مجتمع مادي [ ص: 68 ] جماعي. ويتحقق هـذا الهدف بمصادرة الملكية الفردية التي هـي مصدر كل الشرور والأهوال، والفواجع والكوارث.
إن هـذه النظم -كما أوضحنا من ذي قبل- تفسر المبادئ والقيم في المجتمعات بأنها أفيون، ومخلفات القديم البائد، ولذلك فلا اعتبار لأية قيمة تقف حاجزا أمام تحقيق هـدف إيجاد مجتمع مادي جماعي. وإن كان لا بد من الاعتداد بقيمة، فلتكن تلك القيمة قيمة تقود إلى انتصار فكرة المادية الجدلية القائمة على مصادرة جميع نوازع الملكية الفردية، في سائر أشكالها ووسائلها.
وبناء على هـذا المنطلق الذي يقوم على القضاء على جميع صور الملكية الفردية، فإن هـذه النظم استطاعت أن تنتج مجتمعا ماديا ينتعش فيه الكسل والعطالة والباطلة، وما ذلك إلا لأن الفكرة في حد ذاتها تتعارض مع الفطرة الإنسانية، وتقتل في الأفراد روح المبادرة والإبداع والابتكار، إذ أن ناتج عمل العامل، وثمار كد الكادح ليست له، ولا حق له فيها على الإطلاق، وإنما لجميع أفراد المجتمع، للعامل منهم وللكسول، للنائم وللصاحي، وهكذا دواليكم.
وعلى العموم، فإنه يمكن القول: بأن أهداف النظم التعليمية السائدة، الغربية والشرقية -في ضوء ما تقدم- أهداف مادية بحتة، تسعى إما إلى إنتاج فرد مادي، وإما إلى إنتاج مجتمع مادي، وكلاهما [ ص: 69 ] خاليان من الجانب الروحي السامي.. وهذه الأهداف المادية لهذه النظم، إنما مردها إلى توجيهات مرجعياتها التي تحدثنا عنها سابقا، ولئن اختلفت تلك النظم بعض الشيء حول الهدف الأولى والأسمى والأعلى، فإنها تتفق من حيث المبدأ على إنتاج شيء مادي، قد يكون فردا أو ربما كان مجتمعا، الأمر الذي يحصر اختلاف تلك النظم التعليمية الوافدة في نقطة البدء والتركيز، إذ أنها بعد اتفاقها على ضرورة إنتاج فرد أو مجتمع مادي، تختلف فيما ينبغي البدء به والتركيز عليه، فالنظم الغربية ترى أن الغاية الأولى من نظمها التعليمية إنتاج فرد مادي فمجتمع مادي، ولذلك فإن تربية النزعة الفردية تشكل الغاية الأساس والمهمة الأولى والأخيرة للنظم التعليمية الغربية.
وأما النظم التعليمية الشرقية (الاشتراكية أو الشيوعية) ، فإنها ترى أن نقطة التركيز والبدء هـي الجماعة أو المجتمع، ولذلك فإن تربية النزعة الجماعية تشكل الغاية التي تروم النظم التعليمية تحقيقها والوصول إليها، وأما تربية وتنمية النزعة الفردية في نفوس المتعلمين، فلا ينبغي التطرق ولا التعرض لها، لأي سبب من الأسباب، وذلك لأن تلك النزعة هـي مصـدر كل الشـرور والآفـات، فالفـرد في حـد ذاتـه لا قيمة له، ولا ينبغي الاهتمام به كفرد، وإنما ينبغي التركيز وصرف العناية إلى الجماعة. [ ص: 70 ]
فكأن الاختلاف بين أهداف هـذه النظم يكاد ينحصر في دائرة نقطة البدء والتركيز، إذ أنها تتقاسم الاتفاق على الاهتمام بالجانب المادي، والتركيز عليه، فإنتاج الفرد المادي أو إنتاج الجماعة المادية.. وبناء عليه، فليست ثمة غرابة في أن ينعدم الإحساس والمشاعر الإنسانية في حياة الأفراد والمجتمعات التي أنتجتها هـذه النظم، وأن تغدو المبادئ والقيم المعنوية قضايا نسبية لا قرار لها، ولا دور لها.
القارة الإفريقية وأهداف النظم السائدة
إن هـذه الأهداف على اختلاف درجاتها، غريبة على الحياة في القارة، ووافدة عليها، وذلك لأنها أهداف تشكلت -كما تبدى لنا سابقا- من خلال ظروف وأوضاع لا تعرفها القارة، ولا تربطها بها أية رابطة، بل هـي أهداف تمت صياغتها بعيدا عن الواقع الإفريقي، وظروف الحياة في القارة، وبالتالي عندما استوردت إلى القارة وطبقت في بعض أرجائها، جلبت لتلك الأرجاء صنوف المآسي والفظائع والفواجع والكوارث، لم تعرف القارة حتى هـذه اللحظة سبيلا للخروج منها.
فهدف إنتاج الفرد المادي -على سبيل المثال- أورث القارة أمراض الأنانية البغيضة، والرشوة والحقد والحسد، والفساد السياسي والإداري، والانحلال الخلقي، وغيرها من خصال وأدواء التخلف والتأخر، [ ص: 71 ] والتقهقر، وغدت الانقلابات العسكرية، المبررة وغير المبررة، أساسا ومبدأ لا ينازع في مشروعيته، طمعا في الاستئثار بثروات الأمم وخيراتها، والانفراد بها دون الآخرين، مما زاد القارة تخلفا وتوسعا، واستمراء لحياة التأخر والتقهقر والهامشية.
ولئن استطاعت النظم التعليمية الغربية إنتاج الفرد المادي ذي النزعة الفردية، وخلت مجتمعات تلك النظم من فشو أدواء التخلف وخصاله، فإن مرد ذلك إلى وجود جملة من السياج القانوني والاجتماعي والنفسي والعقلي، والذي ظل ولا يزال عامل ترشيد وتهذيب لتلك النزعة الفردية، بحيث إذا ما حاولت الحياد والانحراف بالفرد عن المسار المرسـوم، كـان ذلك السيـاج مقوما ومصححا لاعوجاج النزعة.
ولما تبنت تلك الدول الإفريقية هـذه النظم وحلمت بتحقيق هـذا المبدأ، لم يكن ثم سياج قانوني قادر على حماية مصالح عامة الناس، الأمر الذي ترتب عليه أن غدت تربية تلك النزعة في شخصية الإنسان الإفريقي عامل هـدم وتدمير على سائر المستويات، ويكفيها أن تكون هـي السبب في انتشار أمراض التخلف والتدهور التي أشرنا إليها آنفا (الأنانية، والحقد، والكراهية، والبغضاء، والرشوة، والدجل، والفساد السياسي والإداري...) ، وقد عبر عن هـذا الواقع أحد الباحثين [ ص: 72 ] المعاصرين قائلا:
(وعندما تم تطبيق الفردية في مجال الأرض، كان ذلك يعني أن مفهومات الملكية الخاصة وانتقال الأراضي من خلال البيع، قد أصبحت سائدة في بعض أجزاء القارة. وتمثل الأمر الأكثر انتشارا في الفهم الجديد، بأن العمل الفردي ينبغي أن يفيد الشخص المعني وليس جماعة أوسع، مثل القبيلة أو الجماعة العرقية. وهكذا فإن ممارسة العمل الجماعي والتوزيع الاجتماعي على أساس المساواة قد أفسحا المجال لميل نحو التراكم) .
ويؤكد الكاتب المذكور وافدية هـذه النزعة الفردية على حياة القارة، فيقول: (... وربما كان المبدأ الأكثر أهمية للتعليم الاستعماري يتمثل... في النزعة الفردية الرأسمالية، ولهذا المبدأ جوانبه السلبية والإيجابية، منظورا إليه من وجهة تاريخية، مثله مثل الجوانب المختلفة للبنية الفوقية للمعتقدات في أي مجتمع، وقد كانت البرجوازية الأوربية تقدمية حينما دافعت عن الفرد في مواجهة السيطرة المفرطة للأب في الأسرة، وفي مواجهة القواعد الجمعية للكنيسة والمجتمع الإقطاعي.. وعلى أي حال، فإن النظام الرأسمالي مضى بعد ذلك إلى الدفاع عن حقوق الملكية الفردية وحمايتها، والوقوف ضد حقوق جماهير العمال والفلاحين المستغلين. وحينما كان للرأسمالية تأثيرها في إفريقيا في العهد الاستعماري، كانت [ ص: 73 ] النزعة الفردية في طورها الرجعي بالفعل، ولم تعد تخدم تحرير الأغلبية، وإنما تعمل بالأحرى على استبعاد الأغلبية لمصلحة أقلية) [1] .
وأما هـدف إنتاج المجتمع المادي الذي تبنته النظم الشرقية حينا من الدهر، فإنه هـو الآخر غريب ووافد على القارة، إذ إنه أورثها جملة من أخلاقيات وأمراض التخلف والتأخر، من كسل ودعة واتكال، إضافة إلى ديكتاتوريات تكيد لكل كادح حر يأبى الخنا والعيش في كنف الآخرين عالة عليهم، ففي ضوء هـذا الهدف البغيض صودرت الممتلكات، واستولي على الأتعاب، وسوي بين العامل والكسول في ناتج عمل العامل وكده، ووجدت زمرة من الحثالة أتقنوا فن ملاحقة العاملين الكادحين، واختلاق الأكاذيب والأباطيل ضدهم، ثم الوشاية بهم لدى السلطات المسيرة.. فإذا كان هـذا الهدف لم يجلب لراسميه في عقر ديارهم خيرا ولا تقدما ولا تطورا، فأنى له أن يجلب لغيرهم السعادة والهناء والعيش الرغد؟ بل أنى له أن يقود إلى تقدم أو تنمية، أو تطور لأي مجتمع من المجتمعات؟!!
وعلى العموم، كلا الهدفين غريبان على المجتمعات الإفريقية، وقد لعبا دورا هـاما في تعميق تخلف القارة وتأخرها، ولا تزال آثارهما جلية لكل ذي عينين على واقع القارة حتى يأذن الله بفرج من عنده، [ ص: 74 ] يتم فيه تجاوز كلا الهدفين، ويستبدل بهما هدف أسمى وأعلى، وهو إنتاج الفرد الصالح الذي ينطلق من توجيهات الوحي، ويتعامل بفعالية مع الواقع المعيش، ويسعى إلى تحقيق رفاهة شاملة لكل فرد من أفراد المجتمع، تحقيقا لرسالته الكبرى المتمثلة في إنقاذ البشرية جمعاء من براثن الشر والهلاك.. وليس ثم أمل في تحقيق هذا الهدف ما لم يتم فك الارتباط بين هذه النظم التعليمية الوافدة ومرجعياتها من جهة، وبينها وبين أهدافها التي تحول دون تحقيق هذه الغاية السامية من جهة أخرى.