خامسا: إنجازات الرازي وأثرها في اللاحقين له، وفي (الآخر)
يعتبر كتاب «الحاوي، Continenes» للرازي من أبرز وأوضح العلامات الدالة على النشاط العلمي الجماعي الذي مارسه صاحبه. والكتاب يعتبر من أهم المؤلفات في الطب العربي وأضخمها حجما؛ فهو موسوعة طبية لكافة المعلومات والعلوم الطبية المعروفة حتى وفاة الرازي في القرن الرابع الهجري. وقد جمع الرازي في هـذا الكتاب كل الخبرة «الإكلينيكية» التي عرفها في مرضاه، وفي نزلاء البيمارستان. ونحن نرى أن هـذه مجموعة [ ص: 112 ] محاضرات «إكلينيكية» كان يدرسها الرازي لطلبته ومساعديه، وليس لنا أن نقيسه بغيره من الكتب المنسقة تنسيقا منطقيا. كما أن هـذه المحاضرات قد ألقيت على المتقدمين في دراسة الطب وممارسيه، لا على المبتدئين، ويدلنا على ذلك أنه لم يبدأ كتابه بشرح الكليات أو تفسير معنى الأخلاط والأمزجة كما فعل في أول كتاب (الفصول) مثلا، وكما فعل كل من سبقوه؛ وسواء أكان الرازي قد فعل ذلك عن وعي بالفرق بين التعليم النظري و «الإكلينيكي»، أم هـداه إلى ذلك تفكيره الطبي المستقيم، فالواقع أن هـذا التأليف كان فتحا جديدا في تاريخ تعليم الطب [1] .
ويتفق جميع المؤرخين على أن الرازي توفي قبل أن يخرج هـذا الكتاب، ويرجع الفضل في إخراجه إلى ابن العميد [2] أستاذ الصاحب بن عباد [3] ، الذي طلبه من أخت الرازي، وبذل لها دنانير كثيرة، حيث أظهرت له مسودات الكتاب. فجمع تلاميذه الأطباء؛ منهم: يوسف بن يعقوب ، وأبو بكر قارن الرازي ، الذين كانوا بالري، حتى رتبوا الكتاب، وخرج على ما هـو عليه من الاضطراب [4] . [ ص: 113 ] وهكذا أثمر العمل العلمي الجماعي لهؤلاء التلاميذ إنتاج كتاب ضخم، وأطلقوا عليه اسم كتاب: «الحاوي في الطب»، ولضخامة العمل لم يكن من السهل استنساخ عدد كبير من النسخ. وقد ذكر الطبيب علي بن عباس في كتابه: «الملكي»، بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاة الرازي أن الموجود من كتاب «الحاوي» حسب علمه نسختان فقط [5] .
ويعتبر «الحاوي» أضخم كتاب عربي وصل إلينا كاملا، وهو ما زال ضخما غنيا بالمعلومات الطبية لم يسبر غوره، ولم يدرس بدقة وتأصيل؛ لكثرة ما تضمنه من أسماء الأدوية وصيدلية تركيبها، وأسماء الأطباء من العرب وغير العرب، الذين أخذوا في مؤلفاتهم من هـذا الكتاب. ولضخامة الكتاب بهذا الشكل، لم يقرضه طبيب من الذين أعقبوا الرازي، وكل ما فعله الممارسون من بعده أن تداولوا صورا مختصرة منه [6] .
وقد اشتهر «الحاوي» بذكر عدد كبير من الحالات السريرية التي تجاوز عددها المائة حالة. وبذلك فقد تميز على كتاب «القانون»: لابن سينا ، وعلى «كامل الصناعة الطبية» لعلي بن العباس ، وعلى كتب الرازي الأخرى كـ: «المنصوري» وغيره [7] .
فالحاوي موسوعة طبية اشتملت على كل ما وصل إليه الطب إلى [ ص: 114 ] وقت الرازي، ففيه أعطى لكل مرض وجهة النظر اليونانية، والسريانية، والهندية، والفارسية، والعربية، ثم يضيف ملاحظاته «الإكلينيكية»، ثم يعبر عن ذلك برأي نهائي
[8] .
ولذلك أعتبر «الحاوي» من الكتابات المهمة في مجال الطب، التي أثرت تأثيرا بالغا على الفكر العلمي في أوربا؛ إذ ينظر إليه عادة على أنه أعظم كتب الطب قاطبة حتى نهاية العصور الحديثة.
وهناك من مؤلفات الرازي ما جاء تأليفه نتيجة لاشتراك صاحبها في مجالس العلم الجماعية، ومن ذلك مثلا كتابه: «برء ساعة»، الذي وضعه الرازي نتيجة لما وجده في مجلس أحد وزراء دولة بني العباس حيث يقول: [ ص: 115 ] «كنت عند الوزير أبي القاسم بن عبد الله يوما، فجرى بحضرته ذكر شيء من الطب في مجلس فيه جماعة ممن يدعي علمه. فتكلم كل واحد منهم في ذلك بمقدار ما بلغه علمه، حتى قال بعضهم: إن العلل تتكون من مواد قد اجتمعت على مرور الليالي والأيام والسنون، وهذا سبيل كونها لا تبرأ في ساعة، بل يكون في مثل ذلك من الأيام والشهور وحتى يتم برء العليل. فشنع بذلك جماعة ممن حضر من المتطببين، كل ذلك يريدون به المجئ والذهاب إلى العليل وأخذ الشيء منه. فقال الوزير: ما تقول يا أبا بكر؟ فقلت له: أيها الوزير، إن من العلل ما تجتمع في أيام وتبرأ في ساعة واحدة. فتعجب الحكماء من ذلك فسألني الوزير أن أؤلف في ذلك كتابا يشتمل على جميع العلل التي تبرأ في ساعة واحدة، فبادرت إلى منـزلي، وألفت هـذا الكتاب [9] .
آثرت أن أنقل هـذا النص المطول لأنه يكشف لنا عن بنية الجماعة العلمية في مجلس الوزير؛ حيث يظهر أن هـذه الجماعة قد قامت على التنافس بين مجموعة من العلماء وبين الرازي وحده، ومما لا شك فيه أن التنافس من أهم المبادىء التي تقوم عليها الجماعات العلمية بصفة خاصة، والجماعات من أي نوع بصفة عامة.
وإذا ما اعتبرنا أن قاعدة الاتصال العلمي بين العلماء على مر العصور مظهر غير مباشر من مظاهر النشاط العلمي الجماعي، فإن الرازي قد اتبع ذلك النهج، فاتصل بمعظم من سبقه من مشاهير الأطباء عبر مؤلفاتهم، والتي [ ص: 116 ] تناولها بالنقد والتمحيص، ولم يأخذ منها إلا ما رآه حقا، ومن كتبه في ذلك كتابه المهم: «المنصوري»، والذي يقول عن كيفية تأليفه: «قد جمعت في كتابي هـذا جملا وعيونا ونكتا من صناعة الطب، مما استخرجته من كتب: بقراط ، وجالينوس ، وأرماسوس ، ومن دونهم من القدماء، وفلاسفة الأطباء، ومن بعدهم من المحدثين في أحكام الطب والمفاقهة فيه مثل بولس ، وأهرون ، وحنين بن إسـحق ، ويحيى بن ماسـويه ، وغيـرهم، وفصلت ذلك على غاية الإيجاز» [10] .
وللرازي مؤلفات طبية أخرى كثيرة، وغير طبية، ليس هـذا مجال الحديث عنها [11] ، ولكننا نتساءل عن حجم إنجازات الرازي الطبية، والتي ضمنها في تلك المؤلفات؟
الواقع أن مؤلفات الرازي تطلعنا على أن صاحبها قد قدم إسهامات طبية جليلة أفادت الإنسانية جمعاء؛ فالرازي أول من وصف مرض الجدري والحصبة ، وأول من ابتكر خيوط الجراحة المسماة بـ: «القصاب»، وتنسب إليه عملية خياطة الجروح البطنية بأوتار العود، ويعتبر الرازي أول من اهتم بالجراحة كفرع من الطب قائم بذاته، ففي «الحاوي» وصف لعمليات جراحية تكاد لا تختلف عن وصف مثيلتها في العصر [ ص: 117 ] الحديث [12] ، وهو أيضا أول من وصف عملية استخراج الماء من العيون. واستعمل في علاج العيون حبات «الإسفيداج»، ونصح الرازي بضرورة بناء المستشفى بعيدا عن أماكن تعفن المواد العضوية [13] .
وقد كشف الرازي طرقا جديدة في العلاج؛ فهو أول من استعمل الأنابيب التي يمر فيها الصديد والقيح والإفرازات السامة. كما استطاع أن يميز بين النـزيف الشرياني والنـزيف الوريدي، واستعمل الضغط بالأصبع وبالرباط في حالة النـزيف الشرياني [14] .
ولقد استخدم الرازي أدوية ما زال الطب الحديث يعول عليها حتى وقتنا الحاضر؛ فلقد استخدم الأفيون في حالات السعال الشديدة والجافة، وتقول كتب «الفارماكولوجي» الحديثة: إن الأفيون يحتوي على العديد من القلويات أو شبه القلويات «كالمورفين» و «الكودائين»، و «النوسكابين» تستخدم في إيقاف السعال الجاف خاصة «الكودائين»، وهي جميعها تعمل على تثبيط مركز السعال في الدماغ، وبذلك تخفف من نوباته وحدته. وتعطى هـذه الأدوية كما أعطاها الرازي وخاصة في حالات مرضى القلوب؛ لكي تخفف عن القلب الإرهاق الذي يسببه له السعال. كما استخدم [ ص: 118 ] الرازي طريقة التبخير في العلاج، وهي لا تزال تستخدم حتى يومنا هـذا؛ وذلك بوضع الزيوت الطيارة في الماء الساخن لكي يستنشقه المريض، فتعمل الأبخرة المتصاعدة على توسيع القصبات الهوائية، وبالطبع تتوسع المجاري التنفسية؛ لأنها تؤثر على عملية مرور الهواء دخولا وخروجا في حالتي الشهيق والزفير، وفي الوقت نفسه فإن للزيوت الطيارة تأثيرا مخدرا موضعيا، وهكذا تزيل الإزعاج الذي يحمى به المزكوم [15] .
ولقد أسهم الرازي في مجال التشخيص بقواعد لها أهميتها حتى الآن؛ منها: المراقبة المستمرة للمريض، والاختبار العلاجي؛ وهو أن يعطى العليل علاجا مراقبا أثره، وموجها للتشخيص وفقا لهذا الأثر. ومنها أهمية ودقة استجواب المريض، فينبغي للطبيب أن لا يدع مسـاءلة المريض عن كل ما يمكن أن يتولد عن علته من داخل، ومن خارج، ثم يقضي بالأقوى. ومنها أيضا العناية بفحص المريض فحصا شاملا، على اعتبار أن الجسم وحدة واحدة متماسكة الأعضاء إذا اختل واحد منها «تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».
ولقد اعتمدت نظرية الرازي الأساسية في التشخيص على التساؤل عن [ ص: 119 ] الفرق بين الأمراض. فمن الإسهامات الأصيلة التي قدمها الرازي للطب تفرقته بين الأمراض المتشابهة الأعراض، وهذا ما يطلق عليه الآن: التشخيص التفريقي Diff Diagnosis، والذي يعتمد على علم الطبيب وخبرته، وطول ممارسته، وذكائه، وقوة ملاحظاته. وقد توفر كل ذلك في الرازي [16] .
وبالجملة قدم الرازي إسهامات طبية وعلاجية رائدة، عملت على تقدم علم الطب، وأفادت منها الإنسانية، ولم يستطع أحد أن ينكرها، الرازي حجة الطب في العالم منذ زمانه وحتى العصور الحديثة، وذلك باعتراف الغربيين أنفسهم، أو بالأحرى (الآخر) . [ ص: 120 ]