المطلب الثالث: إسهام القضاة في الإصلاح:
الرعية يلزمها اليقظة والوعي بما يدور حولها، وعليها إدراك أن يقظتها ووعيها حل لمشكلاتها وتحسين لأحوالها، وإدارة جيدة لمعاشها.
فالمسؤولية كبيرة، وكل إنسان يلزمه أن يؤدي دوره بأمانة، وأن يعي حقيقة المرحلة التي تمر بها الأمة، وأن يفكر كيف ينهض بها، وكيف يشارك في عملية إصلاحها. [ ص: 182 ]
يقول، رحمه الله: "ومن أشد ما تبلى به المصالح العامة أن يصرفها من لا يدري كنهها، ولا يتدبر العواقب في تصريفها، وإذا انتهز أولئك الخاطئون غفلة الأمة فرصة لاهتضام حق التعليم والتربية، فإنها اليوم في يقظة تميز بها المهوشين
[1] من المصلحين، فتقابل المهوش بامتعاض وتنديد، وتلاقي المصلح بإقبال وتأييد" [2] .
ومن المجالات التي تستدعي ثبات أصحابها، وتمسكهم بمواقفهم مجال القضاء، فهو مجال يتمتع بخصوصيـات بعينها، وليس على القاضي رقيب إلا الله سبحانه وتعالى، فيلزمه أن يخاف الله وحده، وأن يكون حكمه على ضوابط الشريعة الإسلامية.
"فالإسلام يلقن القاضي أنه مستقل، ليس لأحد عليه من سبيل، وقد قص علينا التاريخ أن كثيرا من القضاة العادلين كانوا لا يتباطئون أن يحكموا على الرئيس، الذي أجلسهم على منصة القضاء، حكمهم على أقصر الناس يدا وأدناهم منـزلة" [3] . [ ص: 183 ]
فالكل أمام القاضي سواء، ولا يكون حكمه منحازا لجهة لما لها من نفوذ وسلطان، أو لشخص لما له هيمنة وقدرة على اتخاذ القرار، إنما القاضي يقول الحكم الذي لا يفضل به أحدا على حساب أحد، ولا تتحكم فيه اعتبارات شخصية، ولأن القضاء مهمة ثقيلة، فإن الكثير يتخوفه، ويرفض منصبه؛ لوعيه بثقله، وما فيه من أحكام لها آثارها، لكن الدعوة إلى القضاء مازجت بين الترغيب والترهيب حتى لا يترك المجتمع فوضى بلا ضبط، ولا فصل.
"هذه العواطف التي تجاذب القاضي وتناجيه أن يرضي خصما بعينه، تجعل العدل في القضاء من قبيل ما يثقل على النفس ويجمح عنه الطبع، فكان من حكمة الدعوة الإسلامية أن تعنى به عناية صافية، وتدخل إلى الترغيب فيه من أبواب متعددة.
فقد "عنيت الشريعة بالعدل في القضاء عنايتها بكل ما هو دعامة لسعادة الحياة، فأتت فيه بالعظات البالغات: تبشر من أقامه بعلو المنزلة وحسن العاقبة، وتنذر من انحرف عنه بسوء المنقلب وعذاب الهون" [4] . فالدعوة الإسلامية من مقاصدها سلامة المجتمع. [ ص: 184 ]