الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في الشهادة على السماع في الرباع والنسب والولاء وفي شروط جواز الشهادة على السماع المعتبر]

                                                                                                                                                                                        وتجوز شهادة السماع في الرباع، سمعوا فيما قدم وإن لم يقع بها العلم، وهي على ثلاثة أوجه: يبقى بها ما في اليد. ولا ينتزع بها ما عليه يد. واختلف هل يؤخذ بها ما ليس عليه يد. قال محمد: ولا تجوز في ذكر الحقوق ولا في الودائع.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رضي الله عنه-: وتجوز في الديار والأرضين لمن هي في يديه، إذا قالوا: لم نزل نسمع أن هذا أو أباه أو جده، اشتراها من أب هذا القادم، أو من جده. فيسقط قيام هذا فيها وإن كان حوزها في غيبته. وإن كان خرابا لا يد عليه، [ ص: 5471 ] أو شيئا من عفو من الأرض، قضي به لمن شهد له به على السماع بعد يمينه على قول ابن القاسم، وبغير يمين على قول أشهب كالشهادة على السماع في الولاء والنسب.

                                                                                                                                                                                        وكذلك الشهادة على الحبس تصح لمن ذلك الربع في يديه. ولا ينتزع بها من يد ويؤخذ بها ما ليس عليه يد.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الولاء والنسب، إذا شهدوا أن هذا الميت مولى هذا أو ابنه، لا يعلمون له وارثا غيره، أو شهد شاهد واحد بمثل ذلك. فقال مالك: لا أرى للإمام أن يعجل في ذلك، فإن لم يأت أحد يستحق ذلك، وإلا قضي به لهذا مع اليمين. وقال ابن القاسم: يقضي له بذلك المال دون الولاء، ولا يقضى له به في مال آخر، إلا بعد يمينه. وقال أشهب: يقضي بشهادة السماع، في المال والولاء والنسب، ولا يقضى بشهادة الشاهد الواحد في مال ولا ولاء، إلا أن يكون سماعا منتشرا يقع به العلم. [ ص: 5472 ]

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم: مثل قول نافع مولى ابن عمر، فيجر المال والولاء، قيل له: فنشهد أنك ابن القاسم ولا نعلم ذلك إلا بالسماع. قال: نعم، يقطع بهذه الشهادة ويقطع بالنسب. قال ابن القاسم في هذا الأصل إذا شهد رجلان، شيخان قديمان قد أدركا الناس، وباد ذلك القرن أنهما سمعا أن هذه الدار حبس، جازت شهادتهما. قيل له: فالرجلان يشهدان وفي القبيل رجال من أسنانهما لا يعرفون شيئا من ذلك. قال: فلا تقبل شهادتهما إلا بأمر يفشو، ويكون عليه شهود أكثر من اثنين.

                                                                                                                                                                                        واختلف هل من شرط جواز شهادة السماع أن يسمعا من عدول. فقال ابن القاسم -في المدونة-: إذا شهدوا على السماع أنها حبس، ولم يشهدوا على قوم أنهم أشهدوهم على السماع، ولا على قوم بأعيانهم، إلا أنهم قالوا: بلغنا أنها حبس فذلك جائز. قال: وإنما سألنا مالكا عن السماع، ولم نسأله عن شهادة قوم عدول أشهدوهم، ولو أشهدوهم لم يكن سماعا وكانت شهادة.

                                                                                                                                                                                        قال: وسئل مالك عن دار لم يزالوا يسمعون أنها حبس، ولم يزل الناس يعرفون [ ص: 5473 ] الرجل من ولده يهلك، ولا ترث امرأته من الدار شيئا، وتهلك ابنته ولها زوج وولدها، فلا يرث زوجها ولا ولدها من الدار شيئا، ولا يشهدون على أصل الحبس بعينه. قال مالك: أراها حبسا ثابتا.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: قلت: فإن قالت البينة في شهادة السماع: إن قالوا لم نزل نسمع ولا نعرف ممن سمعنا. قال: قد قيل لا ينتفع بذلك، حتى يعرفوا أن الذين كانوا يسمعون منهم عدولا. قال عبد الملك: ولا تجوز شهادة السماع من غير أهل العدل، من سامعين أو مسموعين أن دار فلان لفلان الغائب.

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رضي الله عنه-: وهذا انتزاع بالسماع فاحتيج إلى العدالة; لأن الشهادة للغائب بالدار لينتزعها، وللحاضر بالحوز لتبقى في يديه، فإذا كانت لينتزع بها طلب بالعدالة قولا واحدا، وإنما الاختلاف إذا كانت ليقر بها في اليد. وكذلك إذا كانت ليأخذ بها ما ليس عليه يد.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك -فيمن أقر لقوم أن أباهم كان أسلفه مالا وقضاه والدهم-: القول قوله فيما طال زمانه، وإن [ ص: 5474 ] قرب لم يقبل قوله. يريد فيما بعد وادعى بعد القضاء، ولو ادعى أن القضاء تراخى إلى قرب موته لم يقبل قوله.

                                                                                                                                                                                        والإقرار على أربعة أوجه: في مخاصمة، وفي غير مخاصمة على الحديث، أو الشكر، أو الذم.

                                                                                                                                                                                        فإن كان في مخاصمة لم يقبل قوله فيما قرب، ويقبل قوله فيما بعد إذا كان الأشبه أنه لا يتراخى القضاء إلى ذلك الوقت، إلا أن يقر أن القضاء تراخى، وأنه قضاه قرب مخاصمتهما، فلا يقبل قوله.

                                                                                                                                                                                        وإن اختلفا فقال المطلوب: كانت المداينة من مدة كذا، لمدة بعيدة. وقال الطالب غيره، كان القول قول الطالب، على قول ابن القاسم; لأنه مقر بالدين مدع لمدة تسقطه عنه. وعلى قول أشهب القول قول المطلوب في المدة، ولا يؤخذ بغير ما أقر به. وكذلك إن كان إقراره على وجه الحديث، كان القول قول المطلوب فيما بعد، وقول الطالب فيما قرب.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان على وجه الشكر، أو الذم في غير مخاصمة. فقال [ ص: 5475 ] مالك: إذا كان على وجه الشكر أو الذم، فالقول قول المقر في القضاء وإن قرب. وقال ابن الماجشون -في كتاب ابن حبيب، فيمن قال لقوم أسلفني فلان مائة دينار وقضيته إياها-: فهو مصدق، ولو قال ذلك عند السلطان لم يصدق.

                                                                                                                                                                                        قال: والفرق بينهما أن ما جره الحديث على وجه الشكر أو الذم لا يؤخذ به. قاله مطرف: وذكر أصبغ عن ابن القاسم: إذا كان على وجه الشكر، وأقر لحي صدق وإن قرب، وإن أقر لميت كان القول قوله فيما طال، وإن قرب لم يصدق; لأن الميت لعل عنده وثيقة بحقه. ولم يصدقه سحنون فيما كان على وجه الذم بخلاف الشكر.

                                                                                                                                                                                        واتفق مالك وابن القاسم ومطرف وابن الماجشون وأصبغ: أنه مصدق فيما كان على وجه الشكر وإن قرب، وكذلك ما كان على وجه الذم، ولا فرق بينهما; لأن كل ذلك ليس على وجه الإقرار بشيء في الذمة.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم -في العتبية فيمن قال لرجل: قضيتني مائة دينار من مائتين لي عندك، وقال الآخر: المائة سلف أو وديعة-: كان القول قول الدافع مع يمينه.

                                                                                                                                                                                        وقال -فيمن قال لرجل: أشهد أني قبضت من فلان مائة دينار، كانت لي [ ص: 5476 ] عليه فأحسن قضائي جزاه الله خيرا. وقال الآخر: أسلفتها لك وما لك عندي شيء-: فالقول قول الذي قال أسلفتك، إلا أن يأتي الآخر ببينة أنه كان يتقاضاه في دين. وعلى أصل قول ابن القاسم المتقدم، يجب أن يقبل قول القابض; لأنه على وجه الشكر.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن سحنون -فيمن قال قبضت هذه الألف درهم من فلان، كانت لي عليه دينا أو وديعة، وقال الآخر: دفعتها إليك سلفا ولا شيء لك عندي- فقال: قد قيل إن القول قول الدافع، ويحلف ويأخذها. وقيل: القول قول القابض إذا أشبه ما قال في مداينة مثله، وقاله أكثر أصحابنا. وقاله سحنون.

                                                                                                                                                                                        وأرى إن كان ذلك في مخاصمة، أن يكون القول قول القابض، إذا كان هو الذي أتى بالآخر ليطلب ما بقي له عنده، وإن كان الدافع هو الذي أتى بالقابض وادعى أنه سلف، كان القول قوله مع يمينه أنها سلف. [ ص: 5477 ]

                                                                                                                                                                                        كتاب الشهادات الثاني

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية