فما العز إلا في القناعة والرضا بأدنى كفاف حاصل والتزهد ( فما العز ) والرفعة ( إلا في القناعة ) بالفتح من قنع كتعب ، الرضا بالقسم ، وهو قنع وقنوع ويتعدى بالهمزة فيقال أقنعني ، وأما القنوع بالضم فهو السؤال ، والتذلل ، ويطلق على الرضا بالقسم من باب الأضداد وفعله كمنع . ومن دعائهم : نسأل الله القناعة ونعوذ به من القنوع . وفي المثل : " خير الغنى القنوع ، وشر الفقر الخضوع " .
وروى في الأوسط بإسناد حسن عن الطبراني رضي الله عنه قال : { سهل بن سعد جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت [ ص: 535 ] فإنك مجزي به ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل ، وعزه استغناؤه عن الناس } . جاء
وفي صحيح مسلم والترمذي وغيرهما عن رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { عبد الله بن عمرو } . قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه
وفي الترمذي وصححاه عن والحاكم رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { فضالة بن عبيد } . طوبى لمن هدي للإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع
واعلم أن المراد بالكفاف ما كف عن سؤال . وروى في الزهد عن البيهقي رضي الله عنه مرفوعا { جابر } . قال في النهاية : لأن الإنفاق منها لا ينقطع كلما تعذر عليه شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه ورضي . القناعة كنز لا يفنى
ومنه الحديث الآخر { عز من قنع وذل من طمع } لأن القانع لا يذله الطلب فلا يزال عزيزا .
قلت : ذكر في التمييز حديث { } وقال ضعيف ، وقال في القناعة أحاديث كثيرة ، انتهى . وأورده القناعة ملك لا ينفد ، وكنز لا يفنى السيوطي في الجامع الصغير من حديث بدون " وكنز لا يفنى " وعزاه أنس ، زاد شارحه للقضاعي المناوي والديلمي ثم قال بإسناد واه ورأى رجلا سأل آخر حاجة فأبى عليه فقال : ابن السماك أيها الرجل عليك بالقناعة فإنها العز ، ثم أنشد : ابن السماك
إني أرى من له قنوع
يعدل من نال ما تمنى والرزق يأتي بلا عناء
وربما فات من تعنى
وقال رضي الله عنه : يا بني إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة فإنها مال لا ينفذ ، وإياك والطمع فإنه فقر حاضر ، وعليك بالإياس مما في أيدي الناس فإنك لا تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه . [ ص: 536 ] فلهذه الآثار وأمثالها قال الناظم فما العز إلا في القناعة ( و ) هي ( الرضا بأدنى ) أي بأقل ( كفاف ) تقدم أنه ما يكفيك عن السؤال . سعد بن أبي وقاص
وقال الحافظ المنذري : هو الذي ليس فيه فضل عن الكفاية . وروى في كتاب الثواب عن أبو الشيخ بن حيان سعيد بن عبد العزيز أنه سئل ما الكفاف من الرزق ؟ قال : شبع يوم وجوع يوم ( حاصل ) لك بأن كان عندك ما يكفيك أو يأتيك من غلة أو ضيعة ما يكفيك ويوما بيوم أو عاما بعام وما بينهما ، فإذا حصلت على ذلك لم يفتك شيء من أصول المعيشة ولا حاجة لك فيما ينافس فيه المترفون من فضول المعيشة ، فإنه - مع كونه مسئولا عنه يوم القيامة - هم حاضر ، وقطع أيام العمر فيما يئول إلى التراب ، وأنفاس العبد محسوبة عليه ، وهي جواهر ثمينة ، فلا ينبغي أن تنفق في التراب ، وإنما يحمل على هذا القناعة .
إن القناعة من يحلل بساحتها لم يلق في ظلها هما يؤرقه
اقنع برزق يسير أنت نائله واحذر ولا تتعرض للإرادات
فما صفا البحر إلا وهو منتقص ولا تكدر إلا بالزيادات
قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في صيد الخاطر : تفكرت في قول شيبان الراعي لسفيان : يا سفيان عد منع الله إياك عطاء منه لك ، فإنه لم يمنعك بخلا إنما منعك لطفا ، فرأيته كلام من قد عرف الحقائق فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر ، وعجزه أصلح له ; لأنه لو قدر عليهن تشتت قلبه ، إما لحفظهن أو بالكسب عليهن ، فإن قوي عشقه لهن ضاع عمره ، وانقلب هم الآخرة إلى الاهتمام بهن ، فإن لم يردنه فذاك الهلاك الأكبر ، وإن طلبن نفقة لم يطقها كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه ، وإن مات معشوق هلك هو أسفا ، فالذي يطلب الفائق يطلب سكينا لذبحه [ ص: 537 ] وما يعلم ، وكذلك إنفاذ قدر القوة فإنه نعمة .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { محمد قوتا } وفي رواية { اللهم اجعل رزق آل } ومتى كثر تشتت الهمم . فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم فقنع بدفع الوقت في كل حال انتهى . وقال بعضهم : كفافا
هي القناعة فالزمها تعش ملكا لو لم يكن منها إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها سوى بالقطن والكفن
أفنيت عمرك فيما لست تدركه ولا تنام عن اللذات عيناه
يا من تمتع بالدنيا ولذتها يقول لله ماذا حين يلقاه
أفادتنا القناعة أي عز ولا عز أعز من القناعه
فخذ منها لنفسك رأس مال وصير بعدها التقوى بضاعه
تحز حالين تغنى عن بخيل وتسعد في الجنان بصبر ساعه
ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - طيب الله ثراه ورضي عنه - : [ ص: 538 ]
وجدت القناعة ثوب الغنى فصرت بأذيالها أمتسك
فألبسني جاهها حلة يمر الزمان ولم تنتهك
فصرت غنيا بلا درهم أمر عزيزا كأني ملك