" بل " الأولى من كلام الله تعالى إضراب انتقال من حكاية قول فريق منهم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون إلى حكاية قول آخر من أقوال المشركين ، وهو زعمهم أن ما يخبر عنه ويحكيه هو أحلام يراها فيحكيها ، فضمير " قالوا " لجماعة المشركين لا لخصوص القائلين الأولين .
و " بل " الثانية يجوز أن تكون من الكلام المحكي عنهم ، وهي إضراب انتقال فيما يصفون به القرآن . والمعنى : بل افتراه واختلقه من غير أحلام ، أي هو كلام مكذوب .
[ ص: 16 ] ثم انتقلوا فقالوا " هو شاعر " أي كلامه شعر ، فحرف " بل " الثالثة إضراب منهم عن كلامهم ، وذلك مؤذن باضطرابهم ، وهذا الاضطراب ناشئ عن ترددهم مما ينتحلونه من الاعتلال عن القرآن . وذلك شأن المبطل المباهت أن يتردد في حجته كما قيل : الباطل لجلج ، أي ملتبس متردد فيه . ويجوز أن تكون " بل " الثانية والثالثة مثل " بل " الأولى للانتقال في حكاية أقوالهم . والتقدير : بل قالوا : افتراه ، بل قالوا : هو شاعر ، وحذف فعل القول لدلالة القول الأول عليهما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المحكي كلام جماعات من المشركين انتحلت كل جماعة اعتلالا .
والأضغاث : جمع ضغث بكسر الضاد ، وهو الحزمة من أعواد أو عشب أو حشيش مختلط ، ثم أطلق على الأخلاط مطلقا كما في سورة يوسف قالوا أضغاث أحلام أرادوا أن ما يخبركم به من أنه أوحي إليه ومن أخبار البعث والحساب ويوم القيامة هو أحلام يراها .
وفرعوا على ترددهم أو فرع كل فريق على مقالته نتيجة واحدة ، وهي المطالبة أن يأتيهم بمعجزة تدل على صدقه غير هذا القرآن من نوع ما يحكى عن الرسل السابقين أنهم أتوا به مثل انقلاب العصا حية . ومن البهتان أن يسألوا الإتيان بآية يكون الادعاء بأنها سحر أروج في مثلها ، فإن من أشهر أعمال السحرة إظهار ما يبدو أنه خارق عادة ، وقديما قال آل فرعون في معجزات موسى : إنها سحر ، بخلاف آية إعجاز القرآن .
ودخلت لام الأمر على فعل الغائب لمعنى إبلاغ الأمر إليه ، أي فقولوا له : ائتنا بآية . والتشبيه في قوله : كما أرسل الأولون في موضع الحال من ضمير " يأتنا " أي : حالة كون هذا البشر حين يأتي بالآية يشبه [ ص: 17 ] رسالته رسالة الأولين ، والمشبه ذات والمشبه به معنى الرسالة ، وذلك واسع في كلام العرب . قال النابغة :
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي على وعل من ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل ، أو حالة كون الآية كما أرسل الأولون ، أي به .