الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة السابعة في تعيين هذه الفرق

                        وهي مسألة - كما قال الطرطوشي - طاشت فيها أحلام الخلق ، فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها، لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أصولها ثمانية ، فقال : كبار الفرق الإسلامية ثمانية : ( 1 ) المعتزلة و ( 2 ) الشيعة ، و ( 3 ) الخوارج ، و ( 4 ) المرجئة ، و ( 5 ) النجارية ، و ( 6 ) الجبرية و ( 7 ) المشبهة ، و ( 8 ) الناجية .

                        فأما المعتزلة فافترقوا إلى عشرين فرقة وهم : الواصلية ، [ ص: 719 ] والعمرية ، والهذيلية ، والنظامية ، والأسوارية ، والإسكافية ، والجعفرية ، والبشرية ، والمزدارية ، والهشامية ، والصالحية ، والخطابية ، والحدبية ، والمعمرية ، والثمامية ، والخياطية ، والجاحظية ، والكعبية ، والجبائية ، والبهشمية .

                        وأما الشيعة فانقسموا أولا ثلاث فرق : غلاة . وزيدية ، وإمامية .

                        فالغلاة ثمان عشرة فرقة وهم : السبئية ، والكاملية ، والبيانية ، والمغيرية ، والجناحية ، والمنصورية ، والخطابية ، والغرابية ، والذمية ، والهشامية ، والزرارية ، واليونسية ، والشيطانية ، والرزامية ، والمفوضة ، والبدائية ، والنصيرية ، والإسماعيلية وهم : الباطنية ، والقرمطية ، والخرمية ، والسبعية ، والبابكية ، والحمدية .

                        وأما الزيدية فهم ثلاث فرق : الجارودية ، والسليمانية ، والبتيرية .

                        وأما الإمامية ففرقة واحدة ، فالجميع اثنتان وأربعون فرقة .

                        وأما الخوارج فسبع فرق ، وهم : المحكمة ، والبيهسية ، والأزارقة ، والنجدات . والعبدية ، والإباضية وهم أربع فرق : الحفصية ، واليزيدية ، والحارثية ، والمطيعية .

                        وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم : الميمونة ، والشعيبية ، والحازمية ، والحمزية ، والمعلومية ، والمجهولية ، والصلتية ، والثعلبية أربع فرق وهم : الأخنسية ، والمعبدية ، والشيبانية ، والمكرمية ، فالجميع اثنتان وستون .

                        وأما المرجئة فخمس وهم : العبيدية ، واليونسية ، والغسانية ، [ ص: 720 ] والثوبانية ، والتومنية .

                        وأما النجارية فثلاث فرق وهم : البرغوثية ، والزعفرانية ، والمستدركة .

                        وأما الجبرية ففرقة واحدة ، وكذلك المشبهة .

                        فالجميع اثنتان وسبعون فرقة ، فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثا وسبعين فرقة .

                        وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكليف المطابقة للحديث الصحيح ، لا على القطع بأنه المراد ، إذ ليس على ذلك دليل شرعي ، ولا دل العقل أيضا على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان ، كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع بالعقائد ، وقال جماعة من العلماء : أصول البدع أربعة ، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا ، وهم : الخوارج ، والروافض ، والقدرية ، والمرجئة .

                        قال يوسف بن أسباط : ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة : فتلك اثنتان وسبعون فرقة ، والثالثة والسبعون هي الناجية .

                        وهذا التقدير نحو الأول ، ويرد عليه من الإشكال ما ورد على الأول .

                        فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه الله شرحا يقرب الأمر ، فقال : لم يرد علماؤنا بهذا التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الأربع [ ص: 721 ] تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى تحملت تلك العدة ، لأن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن .

                        قال : وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع ، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى ولا شعبة من شعبها ، بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل .

                        ثم بين ذلك بالمثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر ، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر ، فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى .

                        ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر . فقال أكثرهم : لا يكون فعل بين فعلين مخلوقين على التولد، وأحال مثله بين القديم والمحدث .

                        ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة . كاختلافهم في الصلاح والأصلح : فقال البغداديون منهم : يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعباده في دينهم .

                        ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم . ويجب عليه إكمال عقولهم وأقدارهم وإزاحة عللهم .

                        وقال البصريون منهم : لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف .

                        وقال البغداديون منهم : يجب على الله - تعالى عن قولهم - عقاب [ ص: 722 ] العصاة إذا لم يتوبوا، والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر .

                        وأما المصريون منهم ذلك .

                        وابتدع جعفر بن مبشر من استصر امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك . وخالفه في ذلك سلفه .

                        وقال ثمامة بن أشرس : إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة لا يعذبهم ولا يرضيهم .

                        وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها . وبدعا لا تعلق لها بها .

                        فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بتفرق أمته أصول البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع . والمعاقد للفروع لعلهم - والعلم عند الله - ما بلغوا هذا العدد إلى الآن . غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة . وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع ؟

                        وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لأجناس ، أو كانت متغايرة الأصول والمباني .

                        فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة والسلام - والعلم عند الله - فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين .

                        ووجه تصحيح الحديث على هذا ، أن يخرج من الحساب غلاة أهل البدع ، ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة ، كنفاة الأعراض من القدرية [ ص: 723 ] لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض ، وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة .

                        هذا ما قال الطرطوشي رحمه الله تعالى ، وهو حسن من التقرير ، غير أنه يبقى للنظر في كلامه مجالان :

                        أحدهما : أن ما اختار من أنه ليس المراد الأجناس ; فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية ; فمشكل ، لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدعا كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة ، فلا تقف في مائة ولا مائتين ، فضلا عن وقوعها في اثنتين وسبعين ، وأن البدع - كما قال - لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة .

                        وقد مر من النقل ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قول ابن عباس : ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن . وهذا موجود في الواقع ، فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر ، وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها لكان الذي يبقى أكثر من اثنتين وسبعين فما قاله - والله أعلم - غير مخلص .

                        والثاني : أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد ، بخلاف القول المتقدم ، وهو أصح في النظر ، لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل ، والعقل لا يقتضيه . وأيضا فالمنازع له أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الأشعرية [ ص: 724 ] في قواعد العقائد فرقا يسميها ويبرئ نفسه وفرقته عن ذلك المحظور . فالأولى ما قاله من عدم التعيين . وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغي التعيين .

                        أما أولا : فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث مرجى ، وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة والسلام فيالخوارج :

                        إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم الحديث ، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق . وهذا الفصل مبسوط في كتاب الموافقات والحمد لله .

                        وأما ثانيا : فلأن عدم التعيين هو الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب ، وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة ، وكذلك في شأن قربانهم : فإنهم كانوا إذا قربوا لله قربانا فإن كان مقبولا عند الله نزلت نار من السماء فأكلته ، وإن لم يكن مقبولا لم تأكله النار ، وفي ذلك افتضاح المذنب . ومثل ذلك في الغنائم أيضا ، فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها .

                        وأيضا ، فللستر حكمة أخرى ، وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله [ ص: 725 ] بها ، حيث قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال تعالى : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وفي الحديث :

                        لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين .

                        فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة ، لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه ، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج ، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى .

                        وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة قال :

                        كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة [ ص: 726 ] فيقولون له : قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك . فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان ! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى : أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال . وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : أيما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين أجعلها عليهم صلاة يوم القيامة . فوالله لتنتهين أو أكتبن إلى عمر .

                        فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان - رضي الله عنه - ! وهو جار في مسألتنا ، فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول : هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان ! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده ، اللهم إلا في موطنين :

                        أحدهما : حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج ، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم ، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي المغربي ، فإنه ظهر فيهم [ ص: 727 ] الأمران اللذان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بهما في الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ، ولا عرفوا مقاصده . ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها ، مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على الوجه الذي ينبغي ، وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد ، زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين ، وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم .

                        فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيرهم ، حتى لقد روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ، ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الأذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة - صنف من الخوارج - فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله ؟ قال : ما أنتم يا إخوتي ؟ قالوا : أنت أخو الشيطان ، لنقتلنك . قال . ما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : وأي شيء رضي به منك ؟ قال : أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله فخلى عني - قال - فأخذوه فقتلوه .

                        وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه ، وقد جاء في القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن [ ص: 728 ] ماتوا فلا تشهدوهم .

                        وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال :

                        لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال وهذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل . قال صاحب المغني : لم يصح في ذلك شيء . نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أن القول بالقدر قد ظهر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني ، ثم استدل بحديث جبريل - صحيح لا إشكال في صحته .

                        خرج أبو داود أيضا من حديث عمر - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم [ ص: 729 ] ولم يصح أيضا .

                        وخرج ابن وهب عن زيد بن علي قال :

                        قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام يوم القيامة : المرجئة والقدرية ، و عن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم . وعن مجاهد بن جبر :

                        أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون من أمتي قدرية وزنديقية أولئك مجوس .

                        وعن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام - لرجل من أهل الشام - فقال عبد الله : بلغني أنه قد أحدث حدثا ، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه السلام . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية .

                        وعن ابن الديلمي قال : أتينا أبي بن كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل [ ص: 730 ] الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لدخلت النار . قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال لي مثل ذلك . قال : ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك . وفي بعض الحديث :

                        لا تكلموا في القدر فإنه سر الله وهذا كله أيضا غير صحيح .

                        وجاء في المرجئة والجهمية شيء لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تعديل عليه .

                        نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر نزل في أهل القدر . فروى عبد بن حميد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

                        أتى مشركوا قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية . وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ، ولكن إن صح ففيه دليل ، وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق ، وكلامنا فيه .

                        والثاني : حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده ، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس ، [ ص: 731 ] وهم من شياطين الإنس ، فلابد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم . كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره . فروى عاصم الأحول . قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال منه . فقلت : أبا الخطاب : ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض ؟ فقال : يا أحول أولا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد ، وما رأيت من نسكه وهديه ، فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله . فقلت : سبحان الله ! تحك آية من كتاب الله ؟ قال إني سأعيدها . قال : فتركته حتى حكها . فقلت له : أعدها . فقال : لا أستطيع .

                        فمثل هؤلاء لابد من ذكرهم والتشريد بهم ، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا ، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعدواة . ولا شك أن التفريق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم - إذا أقيم - عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم ، وإذا تعارض الضرران يرتكب أخفهما وأسهلهما ، وبعض الشر أهون من جميعه ، كقطع اليد المتآكلة ، إتلافها أسهل من إتلاف النفس . وهذا شأن الشرع أبدا : يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل .

                        فإذا فقد الأمران فلا ينبغي أن يذكروا ولا أن يعينوا إن وجدوا ، لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء ، ومتى حصل باليد منهم أحد [ ص: 732 ] ذاكره برفق ، ولم يره أنه خارج من السنة ، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي ، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا . فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة فهو الحج ، وبهذه الطريقة دعي الخلق أولا إلى الله تعالى ، حتى [ إذا ] عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك .

                        قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة . ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء ، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستنفرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل .

                        هذا ما قال . وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك . والله أعلم .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية