الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة العاشرة :

                        هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى اليهود والنصارى ، فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعدين بالنار ، والواحدة في الجنة . فإذا انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق قسمين : قسم في النار ، وقسم في الجنة ، ولم يبين ذلك في فرق اليهود ولا في فرق النصارى ، إذ لم يبين الحديث أن لا تقسيم لهذه الأمة ، فيبقى النظر : هل في اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا ؟ وينبني على ذلك نظران : هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة : أم لا ؟ [ ص: 745 ] وهذا النظر وإن كان لا ينبني عليه . . . ولكنه من تمام الكلام في الحديث .

                        فظاهر النقل في مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لابد أن يوجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته ، كقوله تعالى : ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق ، وقال تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون وقال تعالى : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقال تعالى : منهم أمة مقتصدة وهذا كالنص .

                        وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

                        أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه . وخرج عبد الله بن عمر ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله [ ص: 746 ] صلى الله عليه وسلم : يا عبد الله بن مسعود : - قلت : لبيك رسول الله قال - أتدري أي عرى الإيمان أوثق ؟ - قال - قلت : الله ورسوله أعلم . قال : الولاية في الله، والحب في الله ، والبغض فيه - ثم قال : يا عبد الله بن مسعود ! - قلت : لبيك رسول الله ! ثلاث مرات ، قال - أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال - فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم - ثم قال - يا عبد الله بن مسعود ! - قلت لبيك يا رسول الله ! ثلاث مرات . قال - هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على استه ، واختلف من قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرها ، فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ، فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال وهربوا فيها ، فهم الذين قال الله عز وجل فيهم : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون . فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي ، والفاسقون الذين كذبوا بي وجحدوا بي ، [ ص: 747 ] فأخبر أن فرقا ثلاثا نجت من تلك الفرق المعدودة والباقية هلكت .

                        وخرج ابن وهب من حديث علي - رضي الله عنه - أنه دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال : إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما ، [ ص: 748 ] يا رأس جالوت ! أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ، وأطعمكم المن والسلوى ، وضرب لكم في البحر طريقا يبسا ، وجعل لكم الحجر الطوري يخرج لكم منه اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عين ! إلا ما أخبرتني على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى ؟ فقال له : ولا فرقة واحدة . فقال له علي : كذبت والذي لا إله إلا هو ، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة .

                        ثم دعا الأسقف ، فقال : أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، وجعل على رجله البركة ، وأراكم العبرة ، فأبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى ، وصنع لكم من الطين طيورا وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . فقال : دون هذا الصدق يا أمير المؤمنين . فقال له علي - رضي الله عنه - . كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مريم من فرقة ؟ قال : لا . والله ولا فرقة . فقال ثلاث مرات : كذبت والله الذي لا إله إلا الله . لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فقال : أما أنت يا يهودي ! فإن الله يقول : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهي التي تنجو ، وأما نحن فيقول الله فينا : وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهذه التي تنجو من هذه الأمة . [ ص: 749 ] ففي هذا أيضا دليل .

                        وخرجه الآجري أيضا من طريق أنس بمعنى حديث علي - رضي الله عنه - : إن واحدة من فرق اليهود ومن فرق النصارى في الجنة .

                        وخرج سعيد بن منصور في تفسيره من حديث عبد الله : أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وكان الحق يحول بين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، فقالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم ، وإن خالفوكم فاقتلوهم ، قالوا : لا ! بل أرسلوا إلى فلان - رجل من علمائهم - فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده ، وإن خالفكم فاقتلوه ؛ فلن يختلف عليكم بعده أحد، فأرسلوا إليه فأخذ ورقة فكتب فيها الكتاب ثم جعلها في قرنه، ثم علقها في عنقه ، ثم لبس عليها الثياب ، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب ، فقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا ، وما لي لا أومن بهذا ؟ ( يعني الكتاب الذي في القرن ) فخلوا سبيله ، وكان له أصحاب يغشونه ، فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا الكتاب ، فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا ، وما لي لا أومن بهذا ؟ وإنما عنى هذا الكتاب . فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذلك القرن - قال عبد الله - : وإن من بقي منكم سيرى منكرا بحسب أمره ، يرى [ ص: 750 ] منكرا لا يستطيع أن يغيره ، إن يعلم الله من قلبه خيرا كاره .

                        فهذا الخبر يدل على أن في بني إسرائيل فرقة كانت على الحق الصريح في زمانهم ، لكن لا أضمن عهدة صحته ولا صحة ما قبله .

                        وإذا ثبت أن في اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون في هذه الأمة فرقة ناجية زائدة على رواية الثنتين والسبعين ، أو فرقتين بناء على رواية الإحدى والسبعين ، فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب ، لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعث من قبلها من أهل الكتابين في أعيان مخالفتها ، فثبت أنها تبعتها في أمثال بدعتها ، وهذه هي :

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية