الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الثانية عشرة

                        أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها كلها في النار ، وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيما ، إذ قد تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبيرة . إذ لم يقل : كلها في النار . إلا من جهة الوصف ( الذي ) افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته ، وليس ذلك إلا [ ل ] لبدعة المفرقة .

                        إلا أنه ينظر في هذا الوعيد ؛ هل هو أبدي أم لا ؟ وإذا قلنا : إنه غير أبدي : هل هو نافذ أم في المشيئة .

                        أما المطلب الأول : فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام ، أو ليست مخرجة ، والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود - وقد تقدم ذكره قبل هذه - فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن [ ص: 753 ] الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه . يحتمل عدم التكفير أمران أحدهما نفوذ الوعيد

                        وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل - على مذهب أهل السنة - أمرين :

                        أحدهما : نفوذ الوعيد من غير غفران ، ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث .

                        وقوله هنا : كلها في النار أي مستقرة ثابتة فيها . والأمر الثاني من احتمال التكفير أن يكون مقيدا بالمشيئة

                        فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة . قيل : بلى ؛ قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى ، لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ، ولابد من ذلك ، فإن المتبع هو الدليل ، فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة، كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإن الله تعالى قال : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم . فأخبر أولا أن جزاءه جهنم ، وبالغ في ذلك بقوله تعالى : " خالدا فيها " عبارة عن طول المكث فيها ، ثم عطف بالغضب ، ثم بلعنته ، ثم ختم ذلك بقوله تعالى : وأعد له عذابا عظيما والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعد له ، ولأن القتل اجتمع فيه حق الله وحق المخلوق وهو المقتول .

                        قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم، وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حيا فيعفو [ ص: 754 ] عنه بطيب نفسه .

                        وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له ، وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول . فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة ، فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدا .

                        وانظر في قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم فهذا وعيد ، ثم قال تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ، ثم قال تعالى : أكفرتم بعد إيمانكم وهو تقريع وتوبيخ ، ثم قال تعالى : فذوقوا العذاب وهو تأكيد آخر .

                        وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع .

                        لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافي - غالبا - فيها ، ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة ، وذلك كله بسببه ، فهي أدهى من قتل النفس .

                        قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له أرفع المنازل ، لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء ، وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء ، إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد .

                        [ ص: 755 ] والثاني : أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار ، وإنما حمل قوله : كلها في النار أي هي ممن يستحق النار ، كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى : فجزاؤه جهنم خالدا فيها أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه ، فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة ، وإن لم يكن الاستدراك ، كذلك يصح أن يقال هنا بمثله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية