الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ما كان لبشر أن يأتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى ، فقال الرئيس من نصارى نجران : أوذاك تريد يا محمد ، وإليه تدعونا ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت " ، فنزلت . وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : " لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله " .

واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : ( ما كان لبشر ) فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكروا سبب النزول المذكور .

وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله ) وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين .

أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : ( ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) .

والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكذبة والمدعين النبوة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .

والكتاب هنا اسم جنس ، والحكم قيل : بمعنى الحكمة ، ومنه " إن من الشعر لحكما " . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولا بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ، ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس .

أتى بلفظ ثم التي هي للمهلة تعظيما لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .

( كونوا عبادا لي من دون الله ) عبادا جمع عبد . قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدى . قال بعض اللغويين : هذه الجموع [ ص: 505 ] كلها بمعنى . وقال قوم : العباد لله ، والعبيد للبشر . وقال قوم : العبدى إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية .

والذي استقرئت في لفظة العباد أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع ، والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن ، فانظر قوله - تعالى - : ( والله رؤوف بالعباد ) ( وعباد مكرمون ) و ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) . وأما العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرئ القيس :


قولا لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل



ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، ومنه ( وما ربك بظلام للعبيد ) لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : ( كونوا عبادا لي من دون الله ) اعبدوني واجعلوني إلها انتهى كلام ابن عطية . وفيه بعض مناقشة .

أما قوله : ومن جموعه : عبيد ، وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، وأما عبدى ، فاسم جمع ، وألفه للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عبادا يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت امرئ القيس ، وقول حمزة ، وقوله تعالى ( بظلام للعبيد ) فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال عباد ، دون عبيد ; لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد .

قال سيبويه : وربما جاء فعيلا ، وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد انتهى . فلما كان فعال هو [ ص: 506 ] المقيس في جمع عبد ، جاء عباد كثيرا . وأما ( وما ربك بظلام للعبيد ) فحسن مجيئه هنا ، وإن لم يكن مقيسا أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله ( أولئك ينادون من مكان بعيد ) وبعده ( قالوا آذناك ما منا من شهيد ) فحسن مجيئه بلفظ " العبيد " مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : ( وما أنا بظلام للعبيد ) لأن قبله ( قال قالوا آذناك ما منا من شهيد ) وبعده ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) وأما مدلوله فمدلول عباد سواء .

وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزة ، إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين .

وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفا على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : " عبادا لي " ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها .

( ولكن كونوا ربانيين ) هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني ، الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين . أو الفقيه ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد . أو العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره . أو الحكيم الفقيه ، قاله ابن عباس . أو الفقيه العالم ، قاله الحسن ، والضحاك . أو والي الأمر يربيهم ، ويصلحهم ، قاله ابن زيد . أو الحكيم التقي ، قاله ابن جبير . أو المعلم ، قاله الزجاج . أو العالم ، قاله المبرد . أو التائب لربه ، قاله المؤرج . أو الشديد التمسك بدين الله وطاعته ، قاله الزمخشري . أو العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله عطاء . أو العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير . أو العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه أقوال متقاربة .

وللصوفية في تفسير أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ; لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير ، والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الأمة .

( بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) الباء للسبب ، وما : الظاهر أنها مصدرية ، وتعلمون : متعد لواحد على قراءة الحرمين وأبي عمرو ; إذ قرءوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء ، وفتح العين ، وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدم أني لا أرى شيئا من هذه التراجيح ; لأنها كلها منقولة متواترة قرءانا ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى .

وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء ، والعين ، واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما .

وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرسون ، بضم التاء ، وفتح الدال ، وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية . وقرئ : تدرسون ، من أدرس بمعنى درس نحو : أكرم وكرم ، وأنزل نزل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم ، والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه ، وكد روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ، ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضا بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ، ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته انتهى [ ص: 507 ] كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه لا يكون مؤمنا عالما إلا بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية