الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفصل الثاني

                                                                                                                                                                                                                                            في مداخل الشيطان

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة ، والغضب ، والهوى ، فالشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منه ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه ، فقوله تعالى : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء ) [ العنكبوت : 45 ] المراد آثار الشهوة ، وقوله : ( والمنكر ) المراد منه آثار الغضب ، وقوله : ( والبغي ) [ النحل : 90 ] المراد منه آثار الهوى ، فبالشهوة يصير الإنسان ظالما لنفسه ، وبالغضب يصير ظالما لغيره ، وبالهوى يتعدى ظلمه إلى حضرة جلال الله تعالى ، ولهذا قال عليه السلام : الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر ، وظلم لا يترك ، وظلم عسى الله أن يتركه . فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضا ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه ، فمنشأ الظلم الذي لا يغفر هو الهوى ، ومنشأ الظلم الذي لا يترك هو الغضب ، ومنشأ الظلم الذي عسى الله أن يتركه هو الشهوة ، ثم لها نتائج : فالحرص والبخل نتيجة الشهوة ، والعجب والكبر نتيجة الغضب ، والكفر والبدعة نتيجة الهوى ، فإذا اجتمعت هذه الستة في بني آدم تولد منها سابع - وهو الحسد - وهو نهاية الأخلاق الذميمة . كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله مجامع الشرور الإنسانية بالحسد ، وهو قوله : ( ومن شر حاسد إذا حسد ) [ الفلق : 5 ] كما ختم مجامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة وهو قوله : ( يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ) [ الناس : 6 ] فليس في بني آدم أشر من الحسد كما أنه ليس في الشياطين أشر من الوسواس ، بل قيل : الحاسد أشر من إبليس لأن إبليس روي أنه أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون من هذا ؟ فقال إبليس : لو كنت إلها لما جهلتني ، فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شرا مني ومنك ، قال نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت في هذه المحنة .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : أصول الأخلاق القبيحة هي تلك الثلاثة ، والأولاد والنتائج هي هذه السبعة المذكورة فأنزل الله تعالى سورة الفاتحة ، وهي سبع آيات لحسم هذه الآفات السبع ، وأيضا أصل سورة الفاتحة هو التسمية ، وفيها الأسماء الثلاثة ، وهي في مقابلة تلك الأخلاق الأصلية الفاسدة . فالأسماء الثلاثة الأصلية في مقابلة الأخلاق الثلاثة الأصلية ، والآيات السبع " التي هي الفاتحة " في مقابلة الأخلاق السبعة ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة ، وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما بيان أن الأمهات الثلاثة في مقابلة الأمهات الثلاثة فنقول : إن من عرف الله وعرف أنه لا إله إلا الله تباعد عنه الشيطان والهوى ؛ لأن الهوى إله سوى الله يعبد ، بدليل قوله تعالى : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) [ الجاثية : 23 ] وقال تعالى لموسى : يا موسى ، خالف هواك فإني ما خلقت خلقا نازعني في ملكي إلا الهوى ، ومن عرف أنه رحمن لا يغضب ، لأن منشأ الغضب طلب الولاية ، والولاية للرحمن لقوله تعالى : [ ص: 215 ] ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] ومن عرف أنه رحيم وجب أن يتشبه به في كونه رحيما وإذا صار رحيما لم يظلم نفسه ، ولم يلطخها بالأفعال البهيمية .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الأولاد السبعة فهي مقابلة الآيات السبع ، وقبل أن نخوض في بيان تلك المعارضة نذكر دقيقة أخرى ، وهي أنه تعالى ذكر أن تلك الأسماء الثلاثة المذكورة في التسمية في نفس السورة ، وذكر معها اسمين آخرين : وهما الرب والمالك ؛ فالرب قريب من الرحيم ؛ لقوله : ( سلام قولا من رب رحيم ) [ يس : 58 ] والمالك قريب من الرحمن ، لقوله تعالى : ( الملك يومئذ الحق للرحمن ) [ الفرقان : 26 ] فحصلت هذه الأسماء الثلاثة : الرب والملك والإله ، فلهذا السبب ختم الله آخر سورة القرآن عليها ، والتقدير كأنه قيل : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل : ( أعوذ برب الناس ) [ الناس : 1 ] وإن أتاك من قبل الغضب فقل : ( ملك الناس ) [ الناس : 2 ] وإن أتاك من قبل الهوى فقل : ( إله الناس ) [ الناس : 3 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ولنرجع إلى بيان معارضة تلك السبعة فنقول : من قال الحمد لله فقد شكر الله ، واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد ، فاندفعت عنه آفة الشهوة ولذاتها ، ومن عرف أنه مالك يوم الدين بعد أن عرف أنه الرحمن زال غضبه ، ومن قال إياك نعبد وإياك نستعين زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، فاندفعت عنه آفة الغضب بولديها ، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال صراط الذين أنعمت عليهم زال عنه كفره وشبهته ، وإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين اندفعت عنه بدعته ، فثبت أن هذه الآيات السبع دافعة لتلك الأخلاق القبيحة السبعة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية