الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد نص أحمد في رواية أبي النضر ، فيمن حمل خمرا ، أو خنزيرا ، أو ميتة لنصراني : أكره أكل كرائه ، ولكن يقضى للحمال بالكراء . وإذا كان لمسلم ، فهو أشد كراهة . فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق .

إحداها : إجراؤه على ظاهره ، وأن المسألة رواية واحدة . قال ابن أبي موسى : وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني . فإن فعل ، قضي له بالكراء ، وهل يطيب له أم لا ؟ على وجهين . أوجههما : أنه لا يطيب له ، ويتصدق به ، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي ، قال : إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر ، أو خنزير ، أو ميتة كره ، نص عليه ، وهذه كراهة تحريم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها . إذا ثبت ذلك ، فيقضى له بالكراء ، وغير ممتنع أن يقضى له بالكراء ، وإن كان محرما كإجارة الحجام انتهى . فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح .

الطريقة الثانية : تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها ، وجعل المسألة رواية واحدة ، وهي أن هذه الإجارة لا تصح ، وهذه طريقة القاضي في " المجرد " ، وهي طريقة ضعيفة ، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة ، فإنه صنف " المجرد " قديما .

[ ص: 694 ] الطريقة الثالثة : تخريج هذه المسألة على روايتين إحداهما : أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة . والثانية : لا تصح الإجارة ، ولا يستحق بها أجرة وإن حمل . وهذا على قياس قوله في الخمر : لا يجوز إمساكها ، وتجب إراقتها . قال في رواية أبي طالب ؛ إذا أسلم وله خمر أو خنازير ، تصب الخمر ، وتسرح الخنازير ، وقد حرما عليه ، وإن قتلها فلا بأس . فقد نص أحمد ، أنه لا يجوز إمساكها ، ولأنه قد نص في رواية ابن منصور : أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنطارة كرم لنصراني ؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر ، إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر ، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر ، وهذه طريقة القاضي في " تعليقه " وعليها أكثر أصحابه ، والمنصور عندهم : الرواية المخرجة ، وهي عدم الصحة ، وأنه لا يستحق أجرة ، ولا يقضى له بها ، وهي مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد .

وهذا إذا استأجر على حملها إلى بيته للشرب ، أو لأكل الخنزير ، أو مطلقا ، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها ، أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها ، فإن الإجارة تجوز حينئذ ؛ لأنه عمل مباح ، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح ، واستحق أجرة المثل ، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه ، رده على صاحبه ، هذا قول شيخنا ، وهو مذهب مالك . والظاهر أنه مذهب الشافعي .

وأما مذهب أبي حنيفة رحمه الله : فمذهبه كالرواية الأولى ، أنه تصح الإجارة ، ويقضى له بالأجرة ، ومأخذه في ذلك ، أن الحمل إذا كان مطلقا ، لم يكن المستحق نفس حمل الخمر ، فذكره وعدم ذكره سواء ، وله أن يحمل شيئا آخر غيره ، كخل وزيت ، وهكذا قال : فيما لو أجره داره ، أو حانوته ليتخذها كنيسة ، أو ليبيع فيها الخمر ، قال أبو بكر الرازي : لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر ، أو لا يشترط وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر : أن الإجارة تصح ؛ لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء ، وإن شرط ذلك ؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ، ولا يتخذ الدار كنيسة ، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة ، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء ، [ ص: 695 ] كان ذكرها وتركها سواء ، كما لو اكترى دارا لينام فيها أو ليسكنها ، فإن الأجرة تستحق عليه ، وإن لم يفعل ذلك ، وكذا يقول : فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة ، أو خنزيرا : أنه يصح ؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر ، بل لو حمله بدله عصيرا استحق الأجرة ، فهذا التقييد عندهم لغو ، فهو بمنزلة الإجارة المطلقة ، والمطلقة عنده جائزة . وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها ، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة . قال : لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره ، وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى ، وقالوا : ليس المقيد كالمطلق ، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة ، فتكون هي المقابلة بالعوض ، وهي منفعة محرمة ، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها ، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا ، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة ، وهي لا تستحق بعقد إجارة .

ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية ، وقالوا : إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم ، حرمت الإجارة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ومعتصرها ، والعاصر إنما يعصر عصيرا ، ولكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا ، فيعصره له ، استحق اللعنة .

قالوا : وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخطه الله ويبغضه ، ويلعن فاعله ، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه وبطلان العقد عليه ، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم بتحريم العينة وما يترتب عليها من العقوبة .

قال شيخنا : والأشبه طريقة ابن موسى ، يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة ، ولكن لا يطيب له أكلها . قال : فإنها أقرب إلى مقصود أحمد ، وأقرب إلى القياس ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عاصر الخمر ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه . فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق [ ص: 696 ] عوضا ، وهي ليست محرمة في نفسها ، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل ، فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا ، وفات العصير والخمر في يد المشتري ، فإن مال البائع لا يذهب مجانا ، بل يقضى له بعوضه . كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر ، لا تذهب مجانا ، بل يعطى بدلها ، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر ، لا من جهة المؤجر ، فإنه لو حملها للإراقة ، أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها ، جاز . ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري ، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة ، فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر ، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا ، فإنه لا يقضى له بثمنها ؛ لأن نفس هذه العين محرمة ، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة .

قال شيخنا : ومثل هذه الإجارة ، والجعالة ، يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة ، لا توصف بالصحة مطلقا ، ولا بالفساد مطلقا ، بل يقال : هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر ، بمعنى أنه يجب عليه العوض ، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير ، بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجر ، ولهذا في الشريعة نظائر . قال : ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نطارة كرم النصراني ، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ، ثم نقضي له بكرائه ، قال : ولو لم يفعل هذا ، لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة ، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه ، فإذا لم يعطوه شيئا ، ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم ، كان ذلك أعظم العون لهم ، وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك ، بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال ، يعني كالزانية ، والمغني ، والنائحة ، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة ، ولو قبضوا منهم المال ، فهل يلزمهم رده عليهم ، أم يتصدقون به ؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك ، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده ، ولا يطيب لهم أكله ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية