المتأمل في ما كتبه العلماء حول المناسبات القرآنية، يمكنه أن يميز فيه اتجاهات أربعة:
الاتجاه الأول: يقول بعدم المناسبة أصلاً، ويمثل هذا الاتجاه الشوكاني، حيث تعرض لهذا الموضوع في تفسيره "فتح القدير"، وأنحى باللائمة على المفسرين الذين يقولون بالمناسبة، فقال: "اعلم أن كثيراً من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه؛ وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاؤوا بتكلفات وتعسفات يبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء، فضلاً عن كلام الرب سبحانه، وحتى أفردوا ذلك بالتصنيف، وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال مفرقاً ينزل بحسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله عز وجل، وكل عاقل -فضلاً عن عالم- لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل وقد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص، يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله. وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين، وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر، وحيناً في عبادة وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب ووقتاً في ترهيب، وآونة في بشارة وآونة في نذارة، وطوراً في أمر دنيا وطوراً في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين، الذي لا يسير معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار، والملاح والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض، أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة، وتبين الأمر الموجب للارتباط، فإن وجد الاختلاف بين الآيات، فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفاً محضاً وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة.
هذا على فرض أن نزول القرآن الكريم كان مرتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف، وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة، فإنه ينثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلاً عن المطولة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزلت فيها في الترتيب، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (العلق:1) وبعده {يا أيها المدثر} (المدثر:1) {يا أيها المزمل} (المزمل:1) وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟ وإذا كان الأمر هكذا، فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً فإن هذا العمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمره وأحقر فائدته، بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله، ولا على من يقف عليه من الناس، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء، وحيناً نديباً وحيناً رثاء، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فِقَره ومقاطعه ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك، لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله متلاعباً بأوقاته، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة، وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه، الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب، وأبكت فصاحته فصحاء عدنان وقحطان، وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي، وأنزله بلغة العرب، وسلك فيه مسلكهم في الكلام، وجرى به مجاريهم في الخطاب. ونكتفي بهذا التبيين على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين". انتهى كلام الشوكاني.
الاتجاه الثاني: اتجاه يقول بالمناسبة في حال دون حال، ويمثل هذا الاتجاه الشيخ العز بن عبد السلام، حيث قال: "المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر". قال: "ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عنه حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض، إذ لا يحسن أن تربط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب، كتصرف الملوك والحكام وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة، وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها".
الاتجاه الثالث: هو الذي يقول بالمناسبة، ويمثل هذا الاتجاه جمهور الذين بحثوا في هذا الموضوع، وهم يرون أن هذا العلم قد خفي على كثير من المفسرين لدقته، يقول الفخر الرازي في تفسيره: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط" وقال بعض الأئمة: "من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض؛ لئلا يكون منقطعاً، وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم، وفوائده غزيرة". وقال القاضي أبو بكر بن العربي في "سراج المريدين": "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البطلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه". وقال بعض المحققين: "قد وهم من قال: لا يُطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً، فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون، مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يمثل كما أفتى، ولا كما نزل مفرقاً، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه الباهر فإنه {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود:1).
الاتجاه الرابع: هو الذي يقول بـ (النظام) الذي تعتبر المناسبة جزءاً من أجزائه وفرعاً من فروعه، ويمثل هذا الاتجاه المعلِّم عبد الحميد الفراهي الهندي ويقرب منه الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم"، يقول الفراهي في معرض بيان الفرق بين المناسبة والنظام: "قد صنف بعض العلماء في تناسب الآي والسور، وأما الكلام في (نظام القرآن) فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام؛ فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئاً واحداً مستقلاً بنفسه، وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة ما، وربما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام، فيصير شيئاً واحداً، وربما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها؛ فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها، ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب فأنكروه، فإن عدم الاتصال بين آيات متجاورة يوجد كثيراً، ومنها ما ترى فيه اقتضاباً بيناً، وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متصلة بالتي على بعد منها، وبالجملة فمرادنا بـ (النظام) أن تكون السورة كلاماً واحداً، ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة، أو بالتي قبلها أو بعدها على بعد ما، كما قدمنا في نظم الآيات بعضها مع بعض، فكما أن الآيات ربما تكون معترضة، فكذلك ربما تكون السور معترضة. وعلى هذا الأصل ترى القرآن كله كلاماً واحداً ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخر، فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء".
يوضح الفراهي هذه الفكرة في كتابه الذي ألفه لهذا الغرض والمسمى "دلائل النظام" حيث يثبت أن للترتيب والنظام حظاً وافراً في كل مركب، ولا سيما في الكلام البليغ، ولا سيما في هذا القرآن الكريم، والذين يزعمون خلاف ذلك، فإنهم قد أخطؤوا في زعمهم، ولم ينصفوا كتاب الله. ثم صرح بعد ذلك بأن القرآن الحكيم كلام منظم ومرتب من أوله إلى آخره على غاية حسن النظم والترتيب، وليس فيه شيء من الاقتضاب، لا في آياته ولا في سوره، بل آياته مرتبة في كل سورة كالفصوص في الخواتم، وسوره منظومة في سلك واحد كالدرر في القلائد، حتى لو قُدِّم ما أُخر أو أخر ما قُدِّم لبطل النظام، وفسدت بلاغة الكلام بل ربما يعود إلى قريب من الهذيان.
ويبين الفراهي في موضع آخر من كتابه كيف اهتدى إلى هذا العلم، فيقول: "وقد يسر لي بمحض نعمته فَهْمَ نَظْمِ القرآن في سورة البقرة وسورة القصص من نفس القرآن، وإني كنت مولعاً بتلاوته، وهو أحب الكتب وألذها عندي -ولله الحمد- وقد كنت أسمع أن القرآن الكريم أشتَّ الكتب نظماً، لنزوله نجماً نجماً، ولكن بعد ما ظهر في النظام في سورتين حثني على التدبر في باقيها، وكنت في حدث السن وعز الفرصة، فمضت بضع عشرة سنة حتى وفقني الله تعالى أن ابتدأت من أول القرآن ويسر لي الإتمام في سنة كاملة، وهممت أن أبرزه للناس فردعني عظم الذمة، وروعني كبر المغبة، فمكثت أراجع فيه النظر مرة بعد مرة أمداً طويلاً، مستعيذاً بالله من ظلمات النفس وغوايات الجهل، ومع ذلك وددت لو طويته على غره، وسكت عن حلوه ومره، ونجوت من إثمه وبره، ولكن اضطرني إليه أمور:
الأول: أني رأيت اختلاف الآراء في التأويل من عدم التزام رباط الآيات، فإنه لو ظهر النظام واستبان لنا عمود الكلام، لجمعنا تحت راية واحدة وكلمة سواء {كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} (إبراهيم:24) وجعلنا معتصمين بحبل كتابه، كما قال: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} (آل عمران:103) وكيف الخلاص عن التفرق الأصلي، وقد جعلوا هذا الحبل أشتاتاً في ظنونهم وهو بحمد الله متين {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42) فيؤوله كل فريق حسب ظنه، ويحرف طريق الكلام عن متنه، وبالنظام يتبين سمت الكلام، فينفي عن آيات الله أهواء المبتدعين وانتحال المبطلين وزيغ المنحرفين، الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، والذين يقطعون كلام الله عما بين يديه ومن خلفه، ويضمون إليه ما يعجب هوى نفوسهم.
والثاني: أني رأيت الملحدين قد طعنوا في القرآن من جهة سوء النظم، ورأيت جمهور علماء المسلمين -عوض الشهادة بالحق والمنافحة عن حقيقة كتاب الله- قد تفوهوا بمثل ما قالوا {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} (الكهف:5) {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (النساء:141) وقد علمت حق اليقين أن قولهم باطل وحجتهم داحضة، فلم يسعني أن أسكت وأرى الباطل قد عمت بلواه وبلغ السيل زباه.
الثالث: أنه لا يخفى أن نظم الكلام بعض منه، فإن تركته ذهب بعض معناه، فإن للتركيب معنى زائداً على أجزاء الأشتات، فلا شك أن من حُرِم فهم النظام، فقد حُرِم حظاً وافراً من الكلام، ويوشك أن يشبه حاله بمن قبله من أهل الكتاب، كما أخبر الله تعالى عنهم: {فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} (المائدة:14) وأخاف أن تكون هذه العداوة والبغضاء التي نراها في المسلمين من هذا النسيان، فلا تهدأ عداوتهم ولا يرجعون من اختلافهم، وسبب ذلك ما ذكرنا في الأمر الأول؛ لأننا إذا اختلفنا في معاني كلامه اختلفت أهواؤنا، وصرنا مثل أهل الكتاب، غير أن رجاءهم كان بهذا النبي وهذا القرآن الذي يرفع اختلافهم، وأما نحن فليس لنا إلا هذا الكتاب المحفوظ".
وهكذا فإن (عِلْمَ النظام) الذي اكتشفه الفراهي عِلْمٌ جامع، ليس كعلم المناسبة الذي كان مركزاً لأفكار المتقدمين ومطمحاً لأنظارهم؛ لأن التناسب إنما هو جزء من أجزائه، و(النظام) شيء زائد عليه، بل أوسع منه وأعم، فـ (علم النظام) لا يظهر التناسب وحده، بل يجعل السورة كلاماً واحداً، فمن تدبر القرآن في ضوء النظام فلا شك أنه لا يخطئ في فهم معانيه؛ وذلك لأن النظام قد يبين له سمت الكلام، وينفي عنه تشاكس المعاني، ويرد الأمور إلى الوحدة، ويسد أبواب الدخول فيه للأهواء حتى يجبره ألا يأخذ إلا بصحيح التأويل، ولا يعتمد إلا عليه، وهو أعظم مطلوب.
ويقول الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم": "إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة، يحسبها الجاهل أضغاثا من المعاني، حشيت حشواً وأوزاعاً من المباني، جُمعت عفواً، فإذا هي -لو تُدُبِّرت- بِنْيَةٌ متماسكة، قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول، وأُقيم على كل أصل منها شِعَبٌ وفصول، وامتدَّ من كل شعبة منها، فروع تقصر أو تطول، فلا تزال تنتقل بين أجزائها ،كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد، قد وُضِعَ رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق، بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة، كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحام، كل ذلك بغير تكلف ولا استعانة بأمر خارج المعاني أنفسها، وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعة وأثنائه، يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً.
ولماذا نقول: إن هذه المعاني تتسق في السورة كما تتسق الحجرات في البنيان؟ لا بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما، كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقها تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب، كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب، ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين، وتؤدي بمجموعها غرضاً خاصاً، كما يأخذ الجسم قواماً واحداً، ويتعاون بجملة على أداء غرض واحد مع اختلاف وظائفه العضوية".
وقد ناقش الدكتور أحمد حسن فرحات هذه الآراء الأربعة، ورجَّح اتجاه الشيخ محمد عبد الله دراز، والمعلم الفراهي، حيث وصفه بأنه أقرب للصواب، وأدنى من الحكمة؛ لما قدما من أدلة قوية مقنعة، ولما وضعاه من الأصول والمعالم التي تهدي إلى المناسبة المعقولة، والتي تبعد عن التكلف والتعسف، بل قد بلغ الأمر عند الفراهي مرتبة اليقين، حتى أنه قال: "وكيف يشك فيه من وجد مسَّ برده، وشم ريح ورده، وتمتع بنسيم عرار نجده، ولكنه من لم يذق فإن ارتاب فلا تثريب عليه"، ومع ذلك يبدو أن هذا الاتجاه على أهميته -وبالرغم من الجهود التي بذلها في توضيح رأيه، وإقامة الحجج والبراهين المقنعة- لم يستطع أن يعبد الطريق أمام الباحثين، فما زالت هناك صعوبات كثيرة وعقبات كبيرة، تحتاج إلى مواصلة الجهد ومعاودة الدرس. وقد لا يستطيع ذلك إلا أفذاذ من الناس ممن وهبوا حياتهم ووقتهم لمطالعة كتاب الله ودراسته وآتاهم الله فهماً وحكمة، {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} (البقرة:269).
* مادة المقال مستفادة من كتاب (مناسبات الآيات والسور) للأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات.