
لما كان الإخلاص لله تعالى شرطا في قبول العمل، كان لا بد أن تكون هذه القضية موضع اهتمام كبير في مسيرة التربية النبوية للنفوس، فكان لا يمل من تكرار هذا الأمر والتأكيد عليه، وقد تنوعت الأساليب النبوية في بناء هذه القيمة وترسيخها في نفوس الصحابة، ولذلك كان الجيل الأول قدوات حقيقية في الإخلاص وتمحض النوايا لله تعالى.
فكان شديد التحذير مما يضاد الإخلاص وهو الرياء ففي المسند عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل»، فقال له: من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم».
ففي مجال التضحية والجهاد في سبيل الله أكد عليهم في أكثر من مناسبة بأن كل التضحيات مهما عظمت لا قيمة لها إلا بالإخلاص، ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، أن رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله أعلى، فهو في سبيل الله».
وأخرج أبو داود والنسائي بإسناد جيد من حديث أبي أمامة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم: «لا شيء له»، فأعادها ثلاث مرات يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا شيء له»، ثم قال: «إن الله لا يقبل من العبد إلا ما كان له خالصا، وابتغى به وجهه».
وبنى في نفوسهم أن الجهاد وغيره من الأعمال الصالحة لا تكون إلا الله، فإذا فسدت نية صاحبها تحولت إلى وبال عليه، بحيث يعاجلون بالنار قبل أي صنف آخر من العصاة، ففي سنن الترمذي عن شفي الأصبحي، حدثه أنه، دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا قلت له: أسألك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكثنا قليلا ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم أفاق فمسح وجهه فقال: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خارا على وجهه فأسندته علي طويلا، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء , فقد قيل ذاك "، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» وقال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة بن مسلم «أن شفيا، هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا» قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم، أنه كان سيافا لمعاوية فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: " قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 16] ".
وكثيرا ما نلحظ في الأحاديث النبوية الربط بين العمل وبين الإخلاص، وتقرير أن الثواب لا يترتب على العمل إلا به، وأما ما ورد مطلقا فإنه يحمل على تلك النصوص المقيدة، ومن تلك النصوص المقيدة:
- أن الانتفاع بقول كلمة التوحيد مقيد بإخلاص القلب، كما في صحيح البخاري عن عتبان بن مالك الأنصاري، قال: غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لن يوافي عبد يوم القيامة، يقول: لا إله إلا الله، يبتغي به وجه الله، إلا حرم الله عليه النار ".
وفي المسند عن أبي هريرة، أنه قال يا رسول الله ماذا رد إليك ربك عز وجل في الشفاعة؟ قال: «لقد ظننت لتكونن أول من سألني عنها مما رأيت من حرصك على العلم، شفاعتي لمن يشهد أن لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه، ولسانه قلبه».
- بناء المساجد لا يترتب عليها الثواب إلا إذا ابتغي بذلك وجه الله كما في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من بنى مسجدا - قال بكير: حسبت أنه قال - يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة ».
- وتعلم العلم لا ينتفع به صاحبه إلا إذا ابتغى به وجه الله، بل إن فساد النية فيه من أسباب حرمان دخول الجنة ابتداء، كما في سنن أبي داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة».
وفي سنن الدارمي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يطلب هذا العلم أحد لا يريد به إلا الدنيا، إلا حرم الله عليه عرف الجنة يوم القيامة».
- وقراءة القرآن لا يترتب عليها الثواب إلا بتحقيق الإخلاص لله، ففي مصنف عبد الرزاق عن عبد الله ابن مسعود، قال: «من قرأ القرآن يبتغي به وجه الله كان له بكل حرف عشر حسنات، ومحو عشر سيئات».
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يبني في نفوس أصحابه، وكذا من بعدهم أن إخلاص النية أساس كل عمل، ففي صحيح ابن حبان عن أبي كثير السحيمي عن أبيه قال: سألت أبا ذر، قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يؤمن بالله»، قال: فقلت: يا رسول الله، إن مع الإيمان عملا؟، قال: «يرضخ مما رزقه الله» قلت: وإن كان معدما لا شيء له؟، قال: «يقول معروفا بلسانه»، قال: قلت: فإن كان عييا لا يبلغ عنه لسانه؟، قال: «فيعين مغلوبا» قلت: فإن كان ضعيفا لا قدرة له؟، قال: «فليصنع لأخرق» قلت: وإن كان أخرق؟، قال: فالتفت إلي و، قال: «ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير، فليدع الناس من أذاه» فقلت: يا رسول الله، إن هذه كلمة تيسير؟، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، ما من عبد يعمل بخصلة منها، يريد بها ما عند الله، إلا أخذت بيده يوم القيامة، حتى تدخله الجنة». فربط كل الخصال المذكورة من الأعمال الصالحة بقيد ابتغاء وجه الله، وذلك هو الإخلاص وتمحيض القصد لله.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة، وهذا كما في قوله عز وجل: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [النساء: 114].
ويقصد بحديث الأربعين خصلة ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربعون خصلة أعلاهن منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة» قال حسان: فعددنا ما دون منيحة العنز، من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق، ونحوه فما استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة.
وإنما لم يعينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث حتى لا يكون التعيين سببا في الرغبة عما سواها، كما ذكر ذلك ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم ينبه الصحابة إلى إخلاص النية حتى يتضاعف لهم الثواب، فالاحتساب وإخلاص النية يزيد في الثواب، فقد بوَّب البخاري رحمه الله في صحيحه: باب احتساب الآثار، وذكر حديث أنس: أن بني سلمة أرادوا أن يتحولوا عن منازلهم، فينزلوا قريبا من النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعروا المدينة، فقال: «ألا تحتسبون آثاركم». قال مجاهد: خطاهم: آثارهم، والمشي في الأرض بأرجلهم. قال الحافظ في الفتح: وفي الحديث أن أعمال البر إذا كانت خالصة تكتب آثارها حسنات.
ومن المنهج النبوي في بناء قيمة الإخلاص في نفوس الصحابة استحضاره حتى في الأعمال التي يدعو إليها الوازع الطبعي من النفقة على الأهل والعيال، ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تجعلها في فِيِّ امرأتك». قال ابن بطال: فترتُّبُ الأجر للمنفق على أهله مشروط باحتساب النفقة عليهن، وإرادة وجه الله بذلك.
وهكذا نجد أن المنهج النبوي في بناء الإخلاص قائم على الأمر بالإخلاص والتحذير مما يضاده من فساد النية وانصرافها إلى الرياء والسمعة وطلب الرياسة وحطام الدنيا، وتبين أنه منهج متكامل ومطرد في العادات والعبادات، فيما يميل إليه الطبع وما لا يميل إليه، ترغيبا وترهيبا، وأمرا ونهيا، فجعل الإخلاص ركيزة العمل، وأسس لذلك في نفوسهم حتى كان الواحد منهم يحتسب نومته، ومأكله، ومشربه، ومنكحه، وخروجه ودخوله، فكانوا سادة في الإخلاص لله تعالى.