الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مستتبَعات التراكيب وأهميتها في فهم القرآن الكريم

مستتبَعات التراكيب وأهميتها في فهم القرآن الكريم

مستتبَعات التراكيب وأهميتها في فهم القرآن الكريم

تعريف المصطلح

يعود مصطلح (مستتبَعات) بفتح الباء، إلى الجذر (تبع) الذي يفيد التُّلُوُّ والقَفْو. يقال: تبِعْتُ فلاناً، إذا تَلَوْتَه واتّبعْتَه. فـ (المستتبَعات) معان تتبع ألفاظ الكَلِم. و(التراكيب) هي الألفاظ والجمل التي ينتظم منها الكلام ويلتئم. والمراد بـمصطلح (مستتبَعات التراكيب) بحسب السيالكوتى (ت1067هـ) في حاشيته على كتاب (المطوّل) بأنها: "المعاني التضمنية والالتزامية، التي تفهم في ضمن المدلولات المطابقية من غير تعلق قصد المتكلم بها". وذكر محمد الخضر حسين (ت1377هـ) أن المراد منها: "ما يشمل المعاني التي يراعيها البليغ زائدة على المعنى الأصلي، الذي يقصد كل متكلم إلى إفادته، وهي المعاني التي يُبحث عنها في علم البيان". وعرَّفها ابن عاشور (ت1393هـ) بأنها: "المعاني المستخرجة من وراء الظاهر، تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام، ولا يُجافيها لسان العرب". والمراد بهذا المصطلح وَفْق بعض المعاصرين: "دلالة إضافية تبعية لتركيب أو أكثر، على أصالة معنى حاقِّ التركيب، لا توصف بالحقيقية ولا بالمجاز، تعدُّ من دقائق مزايا العربية وبلاغتها".
فالمراد من مصطلح (مستتبَعات التراكيب): فهم ما وراء المدلولات اللغوية للتراكيب في التعبير الأدبي، ولا شك، فإن النص الأدبي إنما تقاس قيمته بثراء معانيه وايحاءاته، والنصوص الأدبية الخالدة هي التي لا ينتهى مددها الروحي والنفسي. وهذا من أسرار الاعجاز البلاغي في القرآن الكريم.
تاريخ المصطلح
لم يرد ذِكْرٌ لمصطلح (مستتبَعات التراكيب) عند المتقدمين؛ سواء في ذلك المفسرون أو البلاغيون، ولعل أكثر المصادر التي ذكرت هذا المصطلح الشروحُ والحواشي على كتاب (المطول) للتفتازاني (ت793هـ) في شرحه لتلخيص (مفتاح العلوم) للسكاكي (ت626هـ) ذلك أن قضية فيها أخذ ورد حول عبارة السكاكي، أثارت المصطلح، يرى فيها "أن التعريض تارة يكون على سبيل الكناية، وأخرى على سبيل المجاز" وهنا جاءت عبارة الشريف الجرجاني (ت816هـ) في توضيح ما قاله السكاكي، لتشكل البدايات الأولى لهذا المصطلح، قال الجرجاني: "لم يرد به أن اللفظ في المعنى المعرض به قد يكون كناية، وقد يكون مجازاً، كما يتبادر الوهم إليه مما نقله المصنف عنه -الخطيب القزويني (ت739هـ) صاحب كتاب تلخيص المفتاح- وصرح به الشارح التفتازاني وأيده: بأن اللفظ إذا دل على معنى دلالة صحيحة، فلا بد أن يكون حقيقة فيه، أو مجازاً، أو كناية. وقد غفل عن مستتبعات التراكيب؛ فإن الكلام يدل عليها دلالة صحيحة، وليس حقيقة فيها، ولا مجازاً، ولا كناية؛ لأنها مقصودة تبعاً لا أصالة، فلا يكون مستعملاً فيها". ولاقى توضيح الشريف الجرجاني هذا استحسان كثير من الدارسين بعده، بيد أن الغريب في الأمر أن الجرجاني لم يذكر هذا المصطلح في كتابه (التعريفات) وهو المكان الأليق بذكره.
وإذا عطفنا على أهل التفسير من المتقدمين والمتأخرين، فلا نجد عندهم ذكراً لهذا المصطلح ولا تعويلاً عليه، وقد حام الزمخشري حول هذا المصطلح، لكنه لم يذكره، ينبئ بهذا قول ابن عاشور: "والزمخشري أكثر تحرراً في بحثه من المتأخرين، لا يقف عند الكلمة في كل موضع ليقول: إنها هنا حقيقة، أو مجاز، ويكفيه أن يحيط بالغرض والمقصود من الكلام في بعض المقامات، غير ملتفت إلى وجه الاستعمال".
والشاطبي أيضاً حام حول هذا المصطلح، من غير أن يذكره، لكن في بعض كلامه ما يدل على اعتباره، من ذلك قوله عند الحديث أن للغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران:
أحدهما: من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مطلقة، دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية.
والثاني: من جهة كونها ألفاظاً وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة. قال: "...فمثل هذه التصرفات التي يختلف معنى الكلام الواحد بحسبها، ليست هي المقصود الأصلي، ولكنها من مكملاته ومتمماته، وبطول الباع في هذا النوع يحسن مساق الكلام، إذا لم يكن فيه منكر، وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات، وكثير من أقاصيص القرآن؛ لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه، وفي بعضها على وجه آخر، وفي ثالث على وجه ثالث، وهكذا ما تقرر فيه من الإخبارات لا بحسب النوع الأول، إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض، ونص عليه في بعض، وذلك أيضاً لوجه اقتضاه الحال والوقت".
وبديع الزمان النُّوْرْسي في كتابه (إشارات الإعجاز) ذكر هذا المصطلح، حيث قال: "فمن شأن البليغ أن يفيد بصريح الكلام ما تعلق به الغرضُ واقتضاه المقام، وطلبه المخاطب. ثم يحيل الطبقات الأُخر -بمقدار نسبة درجة القرب من الغرض- على دلالة القيود، وإشارة الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستتبعات التراكيب، وتلميح الأساليب، وإيماء أطوار المتكلم".
ويعد ابن عاشور أول من التفت إلى هذا المصطلح من المتأخرين، وتوقف عنده تنظيراً وتطبيقاُ؛ ففي المقدمة التاسعة من "تفسيره" التي جعلها تحت عنوان: (المعاني التي تتحملها جمل القرآن، تعتبر مرادة بها) قال: "استنباط معانٍ من وراء الظاهر، تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام، ولا يجافيها الاستعمال، ولا مقصد القرآن، وتلك هي مُستتبعات التراكيب، وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة؛ ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب، أو تردد فحوى الخطاب، ودلالة الإشارة، أو احتمال المجاز مع الحقيقة".
وفي أثناء بحثه لجواز استعمال اللفظ المشترك، ألمح ابن عاشور إلى اختلاف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال اللفظ (المشترك) في أكثر من معنى من مدلوله، وهو اختلاف ينبئ عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال. وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن؛ إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري: "يصح أن يراد بالمشترك عدة معان، لكن بإرادة المتكلم، وليس بدلالة اللغة". قال ابن عاشور معلقاً: "وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من (مستتبَعات التراكيب)؛ لأنها دلالة عقلية، لا تحتاج إلى علاقة وقرينة. ومما ذكره في هذا الصدد أن هذه المعاني المستتبَعات مقصودة من القرآن، وهي من وجوه إعجازه؛ لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة.
ثم أخذ هذا المصطلح تتردد أصداؤه في الدراسات المعاصرة على أنحاء متباينة. والحق، فإن تقدم بعض التفاسير يرجع إلى الاجتهاد في كشف آفاق جديدة لمدلول النص القرآني، أعنى البحث الجاد والدؤوب في رؤية مستتبَعات التراكيب.
أهمية مصطلح (مستتبَعات التراكيب)
وضح ابن عاشور أهمية هذا المصطلح في فهم كتاب الله العزيز، ومما ذكره في هذا الصدد: "وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتاباً مخاطَباً به كل الأمم في جميع العصور، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية، لأسباب يلوح لي، منها، أن تلك اللغة أوفر اللغات مادة، وأقلها حروفاً، وأفصحها لهجة، وأكثرها تصرفاً في الدلالة على أغراض المتكلم، وأوفرها ألفاظاً، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني، في أقل ما يسمح به نظم تلك اللغة، فكان قوام أساليبه جارياً على أسلوب الإيجاز؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب. فللقرآن الكريم باعتباره ألفاظاً لغوية دلالة أصلية، وأخرى تابعة -هي مظهر بلاغته، وملاك إعجازه- فبأن يُقتصر على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب مع بيانه وإيضاحه، هذا هو الأصل. أو يستنبط معانيَ أخرى من وراء الظاهر، تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام، ولا يجافيها الاستعمال اللغوي، ولا مقصد القرآن. وتلك هي مستتبَعات التراكيب.
وقد قال صاحب "الكشاف": "علم التفسير الذى لا يتم تعاطيه وإجالة النظر فيه لكل ذي علم؛ فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بزَّ أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصرى أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علل اللغات بقوة لحييه، لا يتعدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علمي البيان والمعاني".
مستتبَعات التراكيب من علوم البلاغة
وردت عند ابن عاشور في مقدمة "تفسيره" ثلاث إشارات صريحة على أن (مستتبَعات التراكيب) لها ارتباط وثيق بعلوم البلاغة؛ الإشارة الأولى عند حديثه عن الطريقة الثانية من طرائق التفسير، فقد قال: "استنباط معان من وراء الظاهر، تقتضيها دلالة اللفظ، أو المقام، ولا يجافيها الاستعمال، ولا مقصد القرآن، وتلك هي مستتبعات التراكيب، وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة". والإشارة الثانية جاءت في إطار حديثه عن القراءات القرآنية، واحتمالها لأكثر من معنى، قال: "لا مانع من أن يكون مجيء ألفاظ القرآن على ما يحتمل تلك الوجوه مراداً لله تعالى؛ لِيَقْرَأَ القراء بوجوه، فتكثر من جراء ذلك المعاني، فيكون وجود الوجهين فأكثر في مختلف القراءات مجزِئاً عن آيتين فأكثر، وهذا نظير التضمين في استعمال العرب، ونظير التورية والتوجيه في البديع، ونظير مُسْتَتْبَعَاتِ التراكيب في علم المعاني، وهو من زيادة ملائمة بلاغة القرآن". والإشارة الثالثة جاءت عند حديثه عن خصائص العربية في وفرة معانيها في قوام أساليب تجري على الإيجاز، قال: "ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة. واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معاً. بله إرادة المعاني المكنى عنها مع المعاني المصرح بها، وإرادة المعاني المُسْتَتْبَعَات (بفتح الباء) من التراكيب المُسْتَتْبِعَة (بكسر الباء)".
مستتبَعات التراكيب لا توصف بحقيقة ولا مجاز
نبَّه ابن عاشور في أكثر من موضع في "تفسيره" إلى أن (مستتبَعات التراكيب) لا توصف بالحقيقة ولا بالمجاز؛ ففي مقدمة "تفسيره" عند حديثه عن مسألة (التعريض) قال: "والتعريض من قبيل الكناية التلويحية؛ لما فيه من خفاء الانتقال من المعنى إلى لوازمه. وبعض التعريض يحصل من قرائن الأحوال عند النطق بالكلام، ولعل هذا لا يوصف بحقيقة ولا مجاز ولا كناية، وهو من مستتبَعات التراكيب ودلالتها العقلية". وعند تفسيره لقوله تعالى: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} (الأنعام:118) ذكر ما في "الكشاف" من أن الفقهاء تأولوا قوله سبحانه: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} بأنه أراد به الميتة، وبناء على فهم أن يكون قد ذكر اسم الله عليه عند ذكاته، دون ما ذُكر عليه اسم غير الله، أخذاً من مقام الإباحة والاقتصار فيه على هذا دون غيره، وليس في الآية صيغة قصر، ولا مفهوم مخالفة، ولكن بعضها من دلالة صريح اللفظ، وبعضها من سياقه، وهذه الدلالة الأخيرة من مستتبَعات التراكيب المستفادة بالعقل، التي لا توصف بحقيقة ولا مجاز.
تطبيقات لهذا المصطلح من القرآن
هذه بعض التطبيقات لمصطلح (مستتبَعات التراكيب) وجلُّها، بل كلها مما ذكره صاحب "التحرير والتنوير":
* قوله تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} (الأنفال:8) فـ (اللام) في قوله: {ليحق الحق} لام التعليل، وهي متعلقة بقوله: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} (الأنفال:7) قال ابن عاشور: "إنما أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته؛ لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطل. وإذ قد كان محصول هذا التعليل هو عين محصول المعلل في قوله: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} وشأن العلة أن تكون مخالفة للمعلَّل، ولو في الجملة؛ إذ فائدة التعليل إظهار الغرض الذي يقصده الفاعل من فعله، فمقتضى الظاهر أن لا يكون تعليل الفعل بعين ذلك الفعل؛ لأن السامع لا يجهل أن الفاعل المختار ما فعل فعلاً إلا وهو مراد له، فإذا سمعنا من كلام البليغ تعليل الفعل بنفس ذلك الفعل، كان ذلك كناية عن كونه ما فعل ذلك الفعل إلا لذات الفعل، لا لغرض آخر عائد عليه، فإفادة التعليل حينئذ معنى الحصر حاصلة من مجرد التعليل بالمعلَّل نفسه؛ والحصر هنا من مستتبَعات التركيب، وليس من دلالة اللفظ، فافهمه فإنه دقيق وقد وقعت فيه غفلات".
* قوله عز وجل: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} (الأنعام:118) تعليق فعل الإباحة {فكلوا} بما ذكر اسم الله عليه، أفهم أن غير ما ذكر اسم الله عليه لا يأكله المسلمون، وهذا (الغير) يساوي معناه معنى ما ذكر اسم غير الله عليه؛ لأن عادتهم أن لا يذبحوا ذبيحة إلا ذكروا عليها اسم الله، إن كانت هدياً في الحج، أو ذبيحة للكعبة، وإن كانت قرباناً للأصنام أو للجن، ذكروا عليها اسم المتقرَّب إليه. فصار قوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} مفيداً النهي عن أكل ما ذكر اسم غير الله عليه، والنهي عما لم يذكر عليه اسم الله، ولا اسم غير الله؛ لأن ترك ذكر اسم الله بينهم لا يكون إلا لقصد تجنب ذكره. كما أفاد النهي عن أكل الميتة ونحوها، مما لم تقصد ذكاته؛ لأن ذكر اسم الله أو اسم غيره، إنما يكون عند إرادة ذبح الحيوان. كما هو معروف لديهم، فدلت هذه الجملة على تعيين أكل ما ذكي دون الميتة، بناء على عرف المسلمين؛ لأن النهي موجه إليهم.
* رأى ابن عاشور في قوله تعالى: {كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون} (التكاثر:3-4) زجراً في كلا الجملتين، لكن الثانية لها دلالة إضافية سوى التوكيد، والقرينة في ذلك مجيء عطفها على الأولى بحرف العطف (ثم) الذي يفيد التراخي، الذي أشار إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد ممائل للأول، لكن عطفه بحرف (ثم) اقتضى كونه أقوى من الأول؛ لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله، كما عضد هذه الدلالة بما أُثر عن ابن عباس رضي الله عنهما: {كلا سوف تعلمون} ما ينزل بكم من عذاب في القبر {ثم كلا سوف تعلمون} عند البعث أن ما وُعِدتم به صَدْقٌ، أي: تُجْعَلُ كل جملة مراداً بها تهديد بشيء خاص. وهذا من مستتبَعات التراكيب، والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكل من فعلي {تعلمون} وليس تكرير الجملة بمقتضٍ ذلك في أصل الكلام، ومفاد التكرير حاصل على كل حال.
* قوله تعالى: {والسابقون السابقون * أولئك المقربون * ثلة من الأولين} إلى قوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما} (الواقعة:10-26) وقوله عز وجل: {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود * وطلح منضود} إلى قوله سبحانه: {ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين} (الواقعة:27-40) فعند ذكر (السابقين) جاءت الإشارة بـ {ثلة} قبل ذكر ما لديهم من نعيم، أما عند ذكر (أصحاب اليمين) فقد سبق ذكر النعم الإشارة بـ (ثلة) إليهم، قال ابن عاشور: "وإنما أخَّر هذا عن ذكر ما لهم من النعيم؛ للإشعار بأن عزة هذا الصنف وقلته دون عزة صنف السابقين، فالسابقون أعز، وهذه الدلالة من مستتبَعات التراكيب المستفادة من ترتيب نظم الكلام".
* قوله سبحانه: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} (غافر:3) فقوله: {شديد العقاب} إفضاء بصريح الوعيد على التكذيب بالقرآن؛ لأن مجيئه بعد قوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} (غافر:2) يفيد أنه المقصود من هذا الكلام بواسطة دلالة مستتبَعات التراكيب.
* قوله عز وجل: {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} (النصر:1-3) ذِكْرُ دليل العموم، وهو قوله: {إنه كان توابا} عقب الأمر بالاستغفار، وذلك قوله: {واستغفره} أفاد أنه إذا استغفره غفر له، وهذه دلالة تقتضيها مستتبَعات التراكيب، فأفادت هذه الجملة تعليل الأمر بالاستغفار؛ لأن الاستغفار طلب لـ (غفر)، فالطالب يترقب إجابة طلبه.
* قوله عز من قائل: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} الواقعة:82) أي: تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون؛ فـ (الفاء) مجاز لغير الترتُّب نحو قولك: أنعمتُ عليه فكفر. ويمكن القول: إن أصل معنى (الفاء) العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير، وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها، فإن الاطراد من علامات الحقيقة. وأما الترتُّب، أي: السببية، فأمر عارض لها، فهو من المجاز، أو من مستتبعات التراكيب؛ إذ إنه يوجد تارة، ويتخلف أخرى، فإنه مفقود في عطف المفردات، نحو: جاء زيد فعمرو، وفي كثير من عطف الجمل، نحو قوله تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك} (ق:22) فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجاً إلى القرائن، فإن لم تتطلب له علاقة، قلنا: هو من مستتبَعات التراكيب بقرينة المقام.
على ضوء ما تقدم وتقرر، يتبين أهمية الأخذ بعين الاعتبار (مستتبَعات التراكيب) في تفسير القرآن الكريم، والوقوف على مراد الله سبحانه، وأن الغفلة عنها مفوت لفهم مراد الله فهماً سليماً ودقيقاً، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة