
المقصود بـ (قواعد الترجيح) ضوابط وأمور أغلبية، يُتوصل بها إلى معرفة الراجح من الأقوال المختلفة في تفسير كتاب الله تعالى. وموضوعها أقوال المفسرين المختلفة في الآية . وفائدتها معرفة أصح الأقوال وأولاها بالقبول، وتصفية وتنقية كتب التفسير مما علق ببعضها من أقوال شاذة وضعيفة.
وقد قرر ابن عاشور في مقدمة "تفسيره" وفي أثناء تفسيره لآيات الكتاب العزيز جملة من القواعد الترجيحية، ندرجها في خمسة أنواع بحسب متعلَّقاتها، كل نوع يشتمل على عدد من القواعد الترجيحية، نجمل القول فيها في السطور الآتية:
أولاً: قواعد الترجيح المتعلقة بالنص القرآني
- القول الذي تؤيده الآيات القرآنية مقدم على غيره: مثال ذلك قوله تعالى: {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} (الأنعام:28) اختلف المفسرون في المراد بقوله {بدا} أي: ما الذي بدا لهم على عدة أقوال، ورجح ابن عاشور أن المراد: بدا لهم ما يخفونه مما خطر لهم من الإيمان، قال: "وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} (الحجر:2) وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحير فيها المفسرون، وهي لا تلائم نظم الآية، فبعضها يساعده صدرها، وبعضها يساعده عَجُزُهَا، وليس فيها ما يساعده جميعها".
- الأصل حمل اللفظ على ظاهره ما لم يرد دليل يصرفه عن ظاهره: الأصل في نصوص القرآن الكريم أن تُحمل على ظواهرها، وتفسر بحسب ما يقتضيه ظاهر اللفظ، ولا يجوز أن يعدل بألفاظ الوحي عن ظاهرها إلا بدليل واضح؛ مثال ذلك قوله سبحانه: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} (البقرة:143) اختلف المفسرون في المراد بـ (الإيمان) في الآية على أقوال، وعدل ابن عاشور عن الظاهر هنا ورجح أن المراد بالإيمان في هذه الآية (الصلاة) وفي ذلك يقول: "وفي إطلاق اسم الإيمان على الصلاة تنويه بالصلاة؛ لأنها أعظم أركان الإيمان" واعتمد ابن عاشور في هذا الترجيح على ما جاء في أسباب النزول، التي تدل على أن المراد بـ (الإيمان) في هذه الآية الصلاة.
- الأولى إعمال اللفظ بكلا معنييه الحقيقي والمجازي متى أمكن: مثال ذلك قوله عز وجل: {ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم} (الأحزاب:1) اختلف العلماء في معنى {ودع أذاهم} فمنهم من حمله على المعنى الحقيقي، ومنهم من حمله على المعنى المجازي، وقد ساق ابن عاشور هذين الاحتمالين، فقال: "وقوله: {ودع أذاهم} يجوز أن يكون فعل (دع) مراداً به أن لا يعاقبهم فيكون (دع) مستعملاً في حقيقته، وتكون إضافة {أذاهم} من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي: دع أذاك إياهم. ويجوز أن يكون (دع) مستعملاً مجازاً في عدم الاكتراث وعدم الاغتمام في ما يقولونه مما يؤذي، ويكون إضافة {أذاهم} من إضافة المصدر إلى فاعله، أي: لا تكترث بما يصدر منهم من أذى إليك، فإنك أجلُّ من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. وأكثر المفسرين اقتصروا على هذا الاحتمال الأخير".
- يقدم المجاز على الحقيقة إذا وجدت القرينة: مثال ذلك قوله تعالى: {في قلوبهم مرض} (البقرة:10) اتفق المفسرون على أن المراد بـ (المرض) في الآية المعنى المجازي، وهذا هو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم وسائر السلف الصالح، وهو الذي رجحه ابن عاشور، وذكر قرينة تدل على ذلك حيث يقول: "والمراد بـ (المرض) في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة؛ لأنه هو الذي اتصف به المنافقون، وهو المقصود من مذمتهم، وبيان منشأ مساوئ أعمالهم".
- إذا خلت الأقوال في الآية من مستند شرعي وكانت متساوية، فالقول الموافق لما جاء في التوراة مقدم على غيره: مثال ذلك قوله عز وجل: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها} (البقرة:61) اختلف المفسرون في المراد بـ (فومها) في هذه الآية، ورجح ابن عاشور أن المراد بـ (فومها) هو الثوم المعروف. واستدل على اختياره هذا كونه موافقاً لما جاء في التوراة.
ثانياً: قواعد الترجيح المتعلقة بالنسخ
- الأصل عدم النسخ ما لم يقم دليل صحيح صريح على خلاف ذلك: مثال ذلك قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} (البقرة:180) اختلف المفسرون في هذه الآية من حيث النسخ والإحكام، ورجح ابن عاشور أن الآية منسوخة بآية الفرائض، يقول في ذلك: "وبالفرائض نُسِخَ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية، وبقيت الوصية مندوبة، بناء على أن الوجوب إذا نُسِخ بقي الندب، وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء".
- النسخ لا يقع في الأخبار: مثال ذلك قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر} (البقرة:62) اختلف المفسرون في هذه الآية على أقوال؛ وسبب اختلافهم هو: قوله تعالى: {من آمن بالله واليوم الآخر} فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من (الإيمان) في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا} غير المراد منه في قوله سبحانه: {من آمن} فلأجل هذا الإشكال اختلف المفسرون؛ فمنهم من ذهب إلى أن الآية منسوخة، ومنهم من يرى أنها ليست منسوخة. ورجح ابن عاشور -وهو ما عليه أكثر المفسرين- عدم النسخ، وبنى ترجيحه هذا على قاعدة: النسخ لا يقع في الأخبار، حيث قال: "وبهذا يُعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر".
- الزيادة على النص ليست بنسخ: المراد من هذه القاعدة أن يوجد نص شرعي يفيد حكماً، ثم يأتي نص آخر أو ما في حكمه في إفادة نفس الحكم الشرعي السابق، ثم يضيف زيادة لم يتضمنها النص الأول، فهذه الزيادة ليست بنسخ للأول؛ مثال ذلك قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة:190) اختلف المفسرون في هذه الآية؛ فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} (التوبة:36) وذهب آخرون إلى أنها محكمة، ورجح ابن عاشور أن الآية محكمة، قال: "وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ".
- الإجماع يعدُّ ناسخاً: مثال ذلك قوله عز وجل: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} (البقرة:184) اختلف المفسرون في هذه الآية بين النسخ والإحكام؛ فذهب بعضهم إلى أن الآية كانت تخير المقيم الصحيح بين الصيام والإفطار، على أن يفدي بإطعام مسكين عن كل يوم يفطر فيه، ثم نسخها الله عز وجل بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة:184) فقد أوجبت هذه الآية الصوم على الصحيح المقيم على التعيين، بعد أن كان واجباً على التخيير بين الصوم وبين الفدية. وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة. ورجح ابن عاشور أن الآية منسوخة بالإجماع، فقال: "وعلى تفسير (الطاقة) بالقدرة، فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع، قالوا في حمل الآية عليه: إنها حينئذ تضمنت حكماً كان فيه توسعة ورخصة، ثم انعقد الإجماع على نسخه".
- التخصيص بعد العمل باللفظ العام والتقييد بعد العمل باللفظ المطلق لا يعدُّ نسخاً: النسخ إنما يُتصور إذا كان الحكم المتأخر نافياً للمتقدم، أما إذا كان المتأخر مخصصاً لبعض أفراد العام لا نافياً له، فإن ذلك يعد تخصيصاً لا نسخاً، وكذلك يقال بالنسبة للمطلق والمقيد؛ مثال ذلك قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (آل عمران:102) اختلف المفسرون في هذه الآية؛ فمنهم من ذهب إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} (التغابن:16) ومنهم من قال بأنها محكمة، وآية التغابن مبينة ومخصصة. وقد بيَّن ابن عاشور أن الآية محكمة، وأن آية التغابن مبينة ومخصصة لها، فقال: "وحق التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} لأن الاستطاعة هي القدرة، والتقوى مقدورة للناس؛ وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ".
ثالثاً: قواعد الترجيح المتعلقة بالقراءات ورسم المصحف
- القراءة المتواترة حق كلها نصًّا ومعنى لا يجوز ردها أو رد معناها: إذا ثبتت القراءة فلا يجوز ردها أو رد معناها، بل يجب قبولها وقبول معناها، وكل طاعن أو راد لها أو لمعناها الذي تؤدي إليه فقوله رد عليه؛ مثال ذلك قوله عز وجل: {لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض} (النور:57) اختلف القراء في قراءة {لا تحسبن} فمنهم من قرأها بتاء الخطاب {لا تحسبن}، ومنهم من قرأها بياء الغيبة {لا يحسبن} والقراءتان متواترتان، وقد ساق ابن عاشور هذا الخلاف، فقال: "وقراءة الجمهور: {تحسبن} بتاء الخطاب، وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة، فصار {الذين كفروا} فاعل {يحسبن} فيبقى لـ {يحسبن} مفعول واحد هو {معجزين}". وتطبيقاً لهذه القاعدة فقد أخذ ابن عاشور بكلا القراءتين، وردَّ على من ضعَّف هذه القراءة؛ لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين، وذكر أن هذا جرأة على قراءة متواترة؛ وذلك بناء على ما يراه ويراه غيره من المفسرين من أن القراءات المتواترة حق كلها نصًّا ومعنى، لا يجوز ردها أو رد معناها".
- الأصل توافق القراءات في المعنى: اتحاد معنى القراءتين أولى من اختلافه؛ فإذا وُجد قول يجمع معنى القراءات في الآية، وأمكن القول بمقتضاها جميعاً على معنى واحد فهو أولى الأقوال بتفسير الآية؛ مثال ذلك قوله سبحانه: {أو لامستم النساء} (النساء:43) اختلفت قراءات القراء في كلمة {لامستم} وقد ساق هذا الخلاف ابن عاشور، فقال: "وقرأ الجمهور {لامستم} بصيغة المفاعلة، وقرأه حمزة والكسائي وخَلَفَ {لمستم} بدون ألف، ورجح ابن عاشور أن القراءتين بمعنى واحد، فقال: "وهما بمعنى واحد على التحقيق، ومن حاول التفصيل لم يأت بما فيه تحصيل، وأصل (اللمس) المباشرة باليد أو بشيء من الجسد".
- اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن الكريم يكثر المعاني في الآية الواحدة: فإذا كان للقراءة تفسير يغاير تفسير القراءة الأخرى، وهما في مكان واحد، ولم يمكن اجتماعهما في شيء واحد، بل يتحدان من وجه آخر لا يقتضي التناقض، فإن القراءتين بمنزلة آيتين، يؤخذ بهما معاً؛ مثال ذلك قوله تعالى: {وما الله بغافل عما يعملون} (البقرة:144) اختلف القراء في قراءة {يعملون} قرأه الجمهور بياء الغيبة، والضمير لـ {الذين أوتوا الكتاب} وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب بتاء الخطاب، والقراءتان بحسب ابن عاشور "تذييل إجمالي ليأخذ كل حظه منه"، لكل قراءة معناها، كما بين ذلك جمهور المفسرين، وعلى كلتا القراءتين فهو: إعلام بأن الله تعالى لا يُهمل أعمال العباد، ولا يغفل عنها، وهو متضمن الوعيد.
- تعدُّ القراءة القرآنية مرجحاً لأحد المعاني المرادة من الآية: القراءات القرآنية تعطي للفظة القرآنية معاني جديدة؛ فإذا أشكلت على المفسر آية، واختلفت الأقوال فيها، كان للقراءات أثر كبير في ترجيح أحد المعاني على الأخرى؛ مثال ذلك قول الباري سبحانه: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا} (الفرقان:10) اختلف المفسرون في المراد بـ (الجنات) و(القصور) في الآية، هل المقصود بها في الدنيا أو الآخرة؟ فجمهور المفسرين على أنها جنات في الدنيا وقصور فيها، ورجح ابن عاشور أن المراد بها في الآخرة، مستدلاً على ما رجحه بقراءة مَن قرأ قوله سبحانه: {ويجعل لك قصورا} برفع (يجعل) على الاستئناف.
- التفسير الموافق لرسم المصحف مقدم على التفسير المخالف لرسم المصحف: مثال ذلك قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} (الأعلى:6) رجح ابن عاشور أن المراد بـ (اللام) في قوله {فلا تنسى} النفي، وليس النهي، حيث قال: "وليس قوله: {فلا تنسى} من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان؛ لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف"، فالآية إخبار من الله تعالى أنه لا ينسى ما يُقْرِئه من القرآن. يؤكد ذلك رسم الكلمة، حيث أُثبتت فيها (الياء) في جميع المصاحف، ولو كانت ناهية لكانت مجزومة ولحذف حرف العلة.
رابعاً: قواعد الترجيح المتعلقة بالسياق القرآني
- القول الذي يدل عليه السياق أولى من غيره ما لم يقم دليل يجب إعماله: حمل الآية على التفسير الذي يجعلها داخلة في معاني ما قبلها وما بعدها أولى وأحسن؛ لأنه أوفق بالسياق، ما لم يرد دليل يمنع من هذا التفسير؛ مثال ذلك قوله عز وجل: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} (المائدة:96) اختلف المفسرون في المراد من قوله {وطعامه} ورجح ابن عاشور أن المراد ما قذف به ساحل البحر، أو طفا عليه من الميتة؛ لمناسبته للسياق، وهذا قوله: "والذي روي عن جلة الصحابة رضي الله عنهم: أن طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة، إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له، ومن العلماء من نُقل عنه في تفسير (طعام البحر) غير هذا مما لا يلائم سياق الآية".
- القول المبني على مراعاة النظم وظاهر ترتيب الكلام أولى من غيره: إذا تعاقبت ضمائر متعددة في سياق واحد، واحتمل في مرجعها أقوالاً متعددة، فتوحيد مرجعها، وعدم تشتيته هو الأصل والأولى من عودها على مختلِف؛ لئلا يتنافر النظم ويتشعب المعنى، ولا يُنتقل عن هذا الأصل إلا بدليل واضح، وقرينة بينة؛ مثال ذلك قوله سبحانه: {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} (الأنعام:100) اختلف المفسرون في المقصود بالذين (خرقوا بنين وبنات) على قولين: فذهب معظم المفسرين إلى القول بأن المقصود بهم المشركون واليهود والنصارى، ويرى آخرون أن المقصود بهم المشركون فحسب، ورجح ابن عاشور القول الثاني، قال: "والمراد أن المشركين نسبوا إليه بنين وبنات. وليس المراد اليهود في قولهم: {عزير ابن الله} (التوبة:30) ولا النصارى في قولهم: {المسيح ابن الله} (التوبة:30) كما فسر به جميع المفسرين؛ لأن ذلك لا يناسب السياق، ويشوش عود الضمائر، ويخرم نظم الكلام".
- لكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيات: إذا حصل تعارض ظاهري بين الآيات، فإنه يجب أن يُحمل كل نوع منها على ما يليق ويناسب المقام؛ لأنه لا تعارض حقيقي بين الآيات؛ مثال ذلك قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات:35-36) هذه الآية تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون، وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون، كقوله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام:23)، وقوله سبحانه: {فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء} (النحل:28) وقوله: {قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين} (غافر:74) إلى غير ذلك من الآيات. وقد اهتم ابن عاشور بمثل تلك الآيات، ووقف عندها، وأزال اللبس الحاصل فيها، يقول مثلاً في هذه الآيات: "واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون، نحو قوله تعالى: {قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل} (غافر:11) لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل، وأما نطقهم المحكي في قوله: {ربنا أمتنا اثنتين} فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل".
خامساً: قواعد الترجيح المتعلقة بالمفردة القرآنية
- إعمال الأغلب في القرآن وتقديم المفهوم الجاري في استعماله أولى: إذا اختلف المفسرون في تفسير آية، أو جملة من كتاب الله، فأولى الأقوال بالصواب، هو القول الذي يوافق استعمال القرآن، ومعهوده في غير موضع الخلاف، سواء كان ذلك في الألفاظ المفردة أو التراكيب؛ مثال ذلك قول الباري سبحانه: {وكف أيدي الناس عنكم} (الفتح:20) اختلف المفسرون في المراد بـ {الناس} في هذه الآية على ثلاثة أقوال، ورجح ابن عاشور أن المراد بـ {الناس} أهل مكة؛ جرياً على مصطلح القرآن في إطلاق هذا اللفظ غالباً.
- زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى: أي زيادة تطرأ على اللفظ القرآني، فإنما تدل على معنى زائد على ما يدل عليه اللفظ دونها، سواء أكانت هذه الزيادة حرفاً، أم كانت زيادة في وزن الكلمة، أو تضعيفها؛ مثال ذلك قوله سبحانه: {ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به} (يونس:54) اختلف المفسرون في قوله (فدى) فمنهم من يرى أنها بمعنى افتدى، دون النظر إلى الغرض من زيادة (التاء) في حين يرى البعض أن زيادة (التاء) تدل على زيادة المعنى، بمعنى تكلَّفت في فداء نفسها. وهذا ما ذهب إليه ابن عاشور حيث يقول: "و(افتدى) مرادف فدى، وفيه زيادة تاء الافتعال؛ لتدل على زيادة المعنى، أي: لتكلَّفت فداءها".
- إذا احتمل اللفظ معان عدة ولم يمتنع إرادة الجميع حُمِلَ عليها: إذا كانت الآية تحتمل معاني كلها صحيحة، فإنه يتعين حملها على الجميع. وقد أوضح ابن عاشور هذه القاعدة في مقدمة "تفسيره" ومما قاله في هذا الشأن: "جاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب، وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم، كان حقيقاً بأن يُودَعَ فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ، في أقل ما يمكن من المقدار". ويقول: "وإنك لتمر بالآية الواحدة، فتتأملها وتتدبرها فتنهال عليك معان كثيرة، يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي. وقد تتكاثر عليك فلا تكُ من كثرتها في حصر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للحمل على البعض الآخر" إلى أن يقول: "وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل، فلذلك كان الذي يرجح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن، يجعل غير ذلك المعنى ملغى، ونحن لا نتابعهم على ذلك، بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي معاني في تفسير الآية"؛ مثال ذلك قوله تعالى: {ومن الأنعام حمولة وفرشا} (الأنعام:142) اختلف المفسرون في تفسير (الفرش) فمن قائل أن المراد منها: ما لا يطيق الحمل من الإبل، أي: فهو يرُكب كما يُفرش الفرش. وقيل: هي الصغار من الإبل، أو من الأنعام كلها؛ لأنها قريبة من الأرض، فهي كالفَرْش. وقيل: هي ما يُذبح؛ لأنه يفرش على الأرض حين الذبح أو بعده. وقيل: ما يُنسج من وبره وصوفه وشعره؛ لأنهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها. وقد رجح ابن عاشور جميع تلك المعاني في معنى (الفرش) لكونها جميعاً محتملة، فقال: "ولفظ (فرشا) صالح لهذه المعاني كلها، ومَحَامِلُهُ كلها مناسبة للمقام، فينبغي أن تكون مقصودة من الآية، وكأن لفظ (الفرش) لا يوازنه غيره في جَمْعِ هذه المعاني، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته، فـ (الحمولة) الإبل خاصة، و(الفرش) يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم (الفرش) الصالحة لكل نوع مع ضميمته إلى كلمة (من) الصالحة للابتداء".
تلك جملة من القواعد الترجيحية التي أصَّلها ابن عاشور وقعَّدها، والتي اعتمدها في "تفسيره" لفهم النص القرآني وبيان مراده، وهي بلا شك قواعد معتبرة، لا غنى للمفسر عنها في تفسير كتاب الله سبحانه، وبيان مراده.
* مادة المقال مستخلَصة من كتاب (قواعد الترجيح المتعلقة بالنص عند ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير).