مُصطلح الجاهلية ليس خاصَّاً بالعرب، بل يشمل جميع الشعوب قبل بعثة نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم، وما كانوا عليه قبل الإسلام مِنَ الكفر والشرك بالله، والجَهالة والضَّلالة، والبغي والظلم، والزنا ووأْد البنات، والنياحة والتبرج، والتفاخر بالحسب والنسب.. قال النووي: "المراد بالجاهلية الفترة قبل الإسلام". وقال ابن الأثير: " هي - أي الجاهلية - الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام، مِن الجهل بالله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين، والمفاخَرة بالأنساب، والكِبْر والتجبر وغير ذلك". وقال القسطلاني: "هي زمان الفترة قبل الإسلام، وسُمِّيَ بذلك لكثرة الجهالات فيه"..
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الجاهلية وأخلاقها وعاداتها تحذيرا شديدا، وذلك لخطورتها على الأفراد والمجتمعات.. ولخطورتها جعل لها النبي صلى الله عليه وسلم نصيباً مِنْ خطبته في حَجَّة الوداع يوم عرفة قبيل وفاته، فذَكر فيها أن أساس التفاضل بين الناس لا عِبْرة فيه لجنس، ولا لون، ولا وطن، ولا قومية، وقرَّرَ فيها صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة بين البّشّر جميعا، ونبْذ العنصرية والمفاخرات العِرْقِيَّة، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى) رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إنَّ كل شيء مِنْ أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) رواه مسلم.
قال البيضاوي: " قوله: "(تحت قدَمَي موضوع) مَجاز عن التجافي عنه والإبطال". وقال الطيبي: "أي: أبطلتُ ذلك وتجافيتُ عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدمي". وقال الكرماني: "أي: كالشيء الموضوع تحت القدم، مجازٌ عن إبطاله وإهداره". وقال المباركفوري: "(كل شيء مِن أمر الجاهلية) يعني الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحَج وغيره قبل الإسلام (تحت قدميّ) بتشديد الياء مثنى (موضوع) أي مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين". وقال النووي: "وأما قوله صلى الله عليه وسلم (تحت قَدَمَيّ) فإشارة إلى إبطاله"..
والسيرة النبوية مليئة بالمواقف التي حَذّر فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَه مِنَ الشَّرِّ كُلِّه، سواء كان في الأقوال أو الأفعال، خاصة ما كان متعلقا بالجاهليّة وأخلاقها، ومِنْ ذلك موقفه صلوات الله وسلامه عليه مع أبي ذر الغفاري رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه عن المعرور بن سويد قال: (لَقِيتُ أبَا ذَرٍّ بالرَّبَذَة (موضع قريب من المدينة)، وعليه حُلَّة، وعلَى غُلَامِه حُلَّة (ثوب مركب من ظهارة وبطانة من جنس واحد، وهو قطعتان)، فَسَأَلْتُه عن ذلك، فقال: إنِّي سَابَبْتُ (أي شاتمتُ) رَجُلاً (كان عبْدا لأن السياق يدل عليه)، فَعَيَّرْتُه بأُمِّه (قال له: يا ابن السوداء أو يا ابن الأعجمية)، فَقال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا أبَا ذَر أعَيَّرْتَهُ بأُمِّه؟! إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة (خُلق مِنْ أخلاق الجاهلية)، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ (خَدَمُكم وعَبيدُكم)، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْت أيْدِيكُم (تملكون التصرف بهم)، فمَنْ كان أخوه تَحْت يَدِه، فَلْيُطْعِمْه ممَّا يَأْكُل، ولْيُلْبِسْه ممَّا يَلْبَس، ولَا تُكَلِّفُوهُم ما يَغْلِبُهُم (ما يعجزون عنه)، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ).
قال العيني في "عمدة القاري": "فإن قلتَ: ما كان تعييره بأمه؟ قلت: عيره بسواد أمه، على ما جاء في رواية أخرى: (قلتُ له يا ابن السوداء)". وقال -العيني-: "قوله: (ساببتُ رجلاً): قال النووي: وسياق الحديث يشعر أَن المسبوب كان عبداً". وقال ابن حجر في "فتح الباري": "ويحتمل أن يكون أبا روح مولى أبي ذر.. وذكر مُسلم في الكُنى أن اسمه سعد". وقال القرطبي في "المفهم": "قوله: (كان بيني وبين رجل من إخواني) يعني به: عبده. وأطلق عليه أنه من إخوانه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إخوانكم خولكم)، ولأنه أخ في الدِّين". وقال ابن بطال: "وقد روى سَمُرة بن جندب: أن بلالاً كان الذي عيَّره أبو ذر بأمه، لكن لم أقف عليه مسنداً، وما أخاله (أحسبه) يصح". والظاهر من آخر الحديث يوضح أنَّ المسبوب كان عبداً لأبي ذر رضي الله عنه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ)، وبلال رضي الله عنه لم يكن عبدا حينئذ"..
وقال ابن حجر في "فتح الباري": "قوله: (إنَّكَ امْرُؤٌ فِيك جَاهِلِيَّة) يؤخذ منه المبالغة في ذم السب واللعن لما فيه من احتقار المسلم، وقد جاء الشرع بالتسوية بين المسلمين في معظم الأحكام، وأن التفاضل الحقيقي بينهم إنما هو بالتقوى، فلا يفيد الشريف النسب نسبه إذا لم يكن من أهل التقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(الحجرات:13)". وقال: "(إنك امرؤ فيك جاهلية) أي: خِصْلة مِنْ خصال الجاهلية"..
وقال الكرماني: "قوله: (فيك جاهليّة) معناه أنك في تعيير أمه فيك خُلُقٌ مِنْ أخلاق الجاهلية وليس جاهلا مَحْضا". وقال القاضي عياض: "(إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم): فيه النهي عن التعيير بنقص الآباء، كما نهى عن الفخر بذلك، وأن الكل مِن فعل الجاهلية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلكم بنو آدم، وآدم من تراب)".
وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث من الفقه: أن أبا ذر رضي الله عنه عمل بهذا الحديث، فألبس غلامه حُلَّة كما لبس هو حُلة. وفيه أيضًا: دليل على جواز لبس الرجل الصالح حُلة، والحلة عند العرب ثوبان. وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى المملوكين إخوانًا.. وقد دل الحديث على أنه لا يجوز تكليف العبد ما يغلبه، فإن كلفه السيد ذلك ثم أعانه عليه فلا بأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن كلفتموهم فأعينوهم).. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنّك امرؤ فيك جاهلية) المعنى قد بقي فيك من اخلاق القوم شيء".
وقال ابن بطال: "قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية) يريد إنك في تعييره بأمه على خُلُق مِنْ أخلاق الجاهلية، لأنهم كانوا يتفاخرون بالأنساب، فجهلتَ وعصيتَ الله في ذلك، ولم تستحق بهذا أن تكون كأهل الجاهلية في كفرهم بالله تعالى.. وهذا غاية في ذم السب وتقبيحه، لأن أمور الجاهلية حرام منسوخة بالإسلام، فوجب على كل مسلم هجرانها واجتنباها".
ويظهر مِن رواية أخرى للحديث أنَّ أبا ذر رضي الله عنه لم يكن هو البادئ بالسب، ففي رواية لمسلم في صحيحه: (فقال: يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة، قُلتُ: يا رَسول الله، مَن سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاه وأُمَّه (أي أنه هو الذي بدأني بالسب)، قال: يا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة). فمع هذا الاعتذار وهذه العِلَّة التي قالها أبو ذر رضي الله عنه بأنه هو الذي شُتِمَ وسُبَّ أولا، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّه؟! إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّة). قال النووي: "معنى كلام أبي ذر (قُلتُ: يا رسول الله، مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمَّه) الاعتذار عن سَبِّه أمّ ذلك الإنسان، يعني أنه سبَّني ومَنْ سبَّ إنسانا سبَّ ذلك الإنسان أبا الساب وأمَّه، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال هذا مِنْ أخلاق الجاهلية، وإنما يُباح للمسبوب أن يسب الساب نفسه بقدر ما سبه، ولا يتعرض لأبيه ولا لأمه"..
فائدة:
1 ـ أجمع أهل السُنة على أن الصحابة رضوان الله عليهم بَشَر غير معصومين. قال ابن تيمية: "دعوى العصمة فيمن سوى الرسول صلى الله عليه وسلم دعوى باطلة قطعا". وقال أيضا: "أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولله الحمد مِنْ أصدق الناس حديثا عنه، لا يُعْرَف فيهم مَنْ تعمد عليه كذبا، مع أنه كان يقع مِنْ أحدهم مِنَ الهنات (الأمور الصغيرة) ما يقع، ولهم ذنوب وليسوا معصومين"... وقال: "ليس القوم معصومين، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة، لهم ذنوب يغفرها الله لهم".
ومع عدم عصمة الصحابة رضوان الله عليهم، إلا أنه ينبغي النظر في غرض مَنْ يُخَطِّئ أحدا منهم، فإنْ كان مراده نفي العصمة عن آحادهم، فهذا حق، وأما اتخاذه ذلك ذلك سبيلا إلى سَبِّهِم والطعن فيهم أو انتقاصهم حقهم، فهذا مِن علامات أهل الشقاق والنفاق.. قال أبو زُرعة: "إذا رأيتَ الرجل ينتقص أحداً مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة". وقال الإمام البربهاري: "واعلم أن مَنْ تناول أحداً مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه إنما أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد آذاه في قبره".. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "مَنْ كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"..
2 ـ أبو ذر رضي الله عنه مِنْ أوائل مَنْ سارع بالإسلام، ومِنْ أجَلِّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.. قال عنه الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "أحَد السابقين الأولين، مِنْ نُجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: كان خامس خمسة في الإسلام، ثم إنه رُدَّ إلى بلاد قومه فأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك، فلما أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إليه أبو ذر رضي الله عنه ولازمه وجاهد معه. وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. قيل: كان آدمَ (أسمر اللون)، ضخما، جسيما، كث اللحية، وكان رأسا في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوَّالا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر". وقال ابن عبد البر في "الاستذكار":" أَمَّا زُهْدُه وعِبَادته: فَقَدْ ذهب فِيها مَثَلًا".. وقد بلغ أبو ذر رضي الله عنه في الصدق نهايته، فكان من أصدق الناس لسانا، كما شهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أقَلَّتِ الغَبراء (الأرض)، ولا أظَلَّتِ الخَضراء (السماء) مِن رَجُلٍ أصدَقَ لَهْجةً مِن أبي ذَرّ) رواه الترمذي. (مِن ذي لَهجَة) أي: صاحِبِ مَنطِقٍ وكلام، (أصدَق) أي: أكثرَ صِدقًا في كلامِه. قال السندي: "المراد بِه أَنَّه بَلَغ في الصِّدْق نِهَايَتَه والْمَرْتَبَة الْأَعْلَى".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أبا ذر رضي الله عنه ويعتني بأمره، ويرشده إلى ما يصلحه. فقد روى مسلم في صحيحه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذَرٍّ، إنِّي أراك ضَعِيفًا، وإنِّي أُحِبُّ لك ما أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ علَى اثْنَيْن، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يَتِيم). قال القرطبي: "أي ضعيفا عن القيام بما يتعين على الأمير من مراعاة مصالح رعيته الدنيوية والدينية، ووجه ضعفه عن ذلك أن الغالب عليه كان الزهد واحتقار الدنيا، ومَنْ هذا حاله لا يعتنى بمصالح الدنيا ولأموالها اللذين بمراعاتهما تنتظم مصالح الدين ويتم أمره". وقال ابن رجب الحنبلي: "وإنَّما نهاه عن ذلك لما رأى من ضعفه، وهو صلى الله عليه وسلم يحبُّ هذا لكلِّ ضعيفٍ، وإنَّما كان يتولَّى صلى الله عليه وسلم أمورَ النَّاس لأنَّ الله قوَّاه على ذلك، وأمره بدعاء الخَلْقِ كلِّهم إلى طاعته، وأنْ يتولَّى سياسة دينهم ودنياهم". وقال الشيخ ابن عثيمين: "(وإني أحب لك ما أحب لنفسي) يعني لم أقل لك ذلك إلا أني أحب لك ما أحب لنفسي".
3 ـ من فوائد هذا الحديث والموقف النبوي مع أبي ذر رضي الله عنه: تحريم أذيّة المسلم بالقول أو بالفعل، وأن كل ما كان مِنْ أمر وأخلاق وعادات الجاهلية فهو مذموم، والتحذير من التخلق بأخلاق الجاهلية كالعصبية والتفاخر بالأنساب، وفيه: أنَّ الناس جميعاً في الإسلام إخوة، وتحقيق المساواة بينهم، ولا تفاضل فيما بينهم إلا بالتقوى.. وفيه: الحث على الإحسان إلى الخدم والعمال والرفق بهم، والنهي عن سبهم وتعييرهم.. وفيه: أن الرجل - مع فضله وعلمه ودينه - قد يكون فيه بعض هذه الخصال المُسماة بجاهلية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه.. وفيه كذلك: حرص صحابة رسول الله على الاستجابة لأمر ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه على أنفسهم..
إن المتأمل في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليعجب مِن فقهه في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها، وعلاج ما بها مِنْ خلل، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا وحياتنا، ومِنْ ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم مع أبي ذر رضي الله عنه وما فيه مِنْ فوائد وعِبَر..
- الكاتب:
إسلام ويب - التصنيف:
مع النبي صلى الله عليه وسلم