والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته
العموم الكائن في ( ما أنزل ) يفيد أنه يجب عليه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغ جميع ما أنزل الله إليه لا يكتم منه شيئا ، وفيه دليل على أنه لم يسر إلى أحد مما يتعلق بما أنزله الله إليه شيئا ، ولهذا ثبت في الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كتم شيئا من الوحي فقد كذب . وفي صحيح من زعم أن من حديث البخاري قال : قلت أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة ، قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر . لعلي بن أبي طالب
( وإن لم تفعل ) ما أمرت به من تبليغ الجميع بل كتمت ولو بعضا من ذلك ( فما بلغت رسالته ) .
قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة إلا شعبة ( رسالته ) على التوحيد ، وقرأ أهل المدينة وأهل الشام ( رسالاته ) على الجمع ، قال النحاس : والجمع أبين ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئا فشيئا ، ثم يبينه انتهى . وفيه نظر ، فإن نفي التبليغ عن الرسالة الواحدة أبلغ من نفيه عن الرسالات ، كما ذكره علماء البيان على خلاف في ذلك ، وقد ، وقال لهم في غير موطن : هل بلغت ؟ فيشهدون له بالبيان ، فجزاه الله عن أمته خيرا ، ثم إن الله سبحانه وعده بالعصمة من الناس دفعا لما يظن أنه حامل على كتم البيان ، وهو خوف لحوق الضرر من الناس ، وقد كان ذلك بحمد الله فإنه بين لعباد الله ما نزل إليهم على وجه التمام ، ثم حمل من أبى من الدخول في الدين على الدخول فيه طوعا أو كرها وقتل صناديد الشرك وفرق جموعهم وبدد شملهم ، وكانت كلمة الله هي العليا ، فأسلم كل من نازعه ممن لم يسبق فيه السيف العذل حتى قال يوم الفتح لصناديد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ما نزل إليهم قريش وأكابرهم : وهكذا من سبقت له العناية من علماء هذه الأمة يعصمه الله من الناس ، إن قام ببيان حجج الله وإيضاح براهينه ، وصرخ بين ظهراني من ضاد الله وعانده ولم يمتثل لشرعه كطوائف المبتدعة ، وقد رأينا من هذا في أنفسنا وسمعناه في غيرنا ما يزيد المؤمن إيمانا وصلابة في دين الله وشدة شكيمة في القيام بحجة الله ، وكل ما يظنه متزلزلو الأقدام ومضطربو القلوب من نزول الضرر بهم وحصول المحن عليهم فهو خيالات مختلة وتوهمات باطلة ، فإن كل محنة في الظاهر هي محنة في الحقيقة ؛ لأنها لا تأتي إلا بخير في الأولى والأخرى : ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فقالوا : أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد [ ق : 37 ] .
قوله : إن الله لا يهدي القوم الكافرين جملة متضمنة لتعليل ما سبق من العصمة ؛ أي : إن الله لا يجعل لهم سبيلا إلى الإضرار بك ، فلا تخف وبلغ ما أمرت بتبليغه .
وقد أخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : لما نزلت ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) قال : يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع ؟ يجتمع علي الناس ، فنزلت ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) . وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت أن الناس مكذبي ، فوعدني لأبلغن أو ليعذبني ، فأنزلت ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك .
وأخرج ، ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس وإن لم تفعل فما بلغت رسالته يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك لم تبلغ رسالته . وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه ، ، عن وابن عساكر قال : نزلت هذه الآية ( أبي سعيد الخدري ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ) على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم في رضي الله عنه . علي بن أبي طالب
وأخرج ابن مردويه عن قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) وأخرج ابن مسعود ، عن ابن أبي حاتم عنترة قال : كنت عند فجاءه رجل فقال : إن ناسا يأتوننا فيخبروننا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس ، فقال : ألم تعلم أن الله قال : ( ابن عباس ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوداء في بيضاء .
وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟ قال : كنت بمنى أيام موسم ، فاجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم ، فأنزل علي جبريل فقال : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك الآية ، قال : فقمت عند العقبة فناديت يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي وله الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم ، تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة ، قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون بالتراب والحجارة ويبزقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه . قال : فبذلك يفتخر الأعمش بنو العباس ويقولون : فيهم نزلت ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) [ القصص : 56 ] هوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا طالب ، وشاء الله . عباس بن عبد المطلب
[ ص: 385 ] وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت : والله يعصمك من الناس فأخرج رأسه من القبة فقال : أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله . قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرس حتى نزلت الحاكم في المستدرك : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث أبي سعيد . وقد روي في هذا المعنى أحاديث .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : جابر بن عبد الله لما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل ، فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال الوارث من بني النجار : لأقتلن محمدا ، فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له : أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به ، فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشمه ، فأعطاه إياه ، فرعدت يده حتى سقط من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد ، فأنزل الله سبحانه : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك الآية . قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه . وأخرج في صحيحه ابن حبان وابن مردويه عن نحو هذه القصة ولم يسم الرجل . وأخرج أبي هريرة من حديث ابن جرير نحوه ، وفي الباب روايات . وقصة محمد بن كعب القرظي غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح ، وهي معروفة ومشهورة .