الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
وسئل عن رجل حنفي صلى في جماعة وأسر نيته ثم رفع يديه في كل تكبيرة ; فأنكر عليه فقيه الجماعة وقال له : هذا لا يجوز في مذهبك وأنت مبتدع فيه وأنت مذبذب لا بإمامك اقتديت ولا بمذهبك اهتديت . فهل ما فعله نقص في صلاته ومخالفة للسنة ولإمامه أم لا ؟ .
فأجاب : الحمد لله . أما الذي أنكر عليه إسراره بالنية فهو جاهل فإن nindex.php?page=treesubj&link=28282الجهر بالنية لا يجب ولا يستحب لا في مذهب أبي حنيفة ولا [ ص: 246 ] أحد من أئمة المسلمين ; بل كلهم متفقون على أنه لا يشرع الجهر بالنية ومن جهر بالنية فهو مخطئ مخالف للسنة باتفاق أئمة الدين ; بل مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسائر أئمة المسلمين أنه إذا nindex.php?page=treesubj&link=28281نوى بقلبه ولم يتكلم بلسانه بالنية لا سرا ولا جهرا كانت صحيحة ولا يجب التكلم بالنية .
لا عند أبي حنيفة ولا عند أحد من الأئمة حتى أن بعض متأخري أصحاب الشافعي لما ذكر وجها مخرجا : أن اللفظ بالنية لا واجب . غلطه بقية أصحابه وقالوا : إنما أوجب الشافعي النطق في أول الصلاة بالتكبير لا بالنية . وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يتنازعوا في أن النطق بالنية لا يجب وكذلك مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ; بل تنازع العلماء : هل يستحب nindex.php?page=treesubj&link=28282التلفظ بالنية سرا ؟ على قولين : فقال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد : يستحب التلفظ بالنية لا الجهر بها ولا يجب التلفظ ولا الجهر .
وقال طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهم : بل لا يستحب التلفظ بالنية لا سرا ولا جهرا كما لا يجب باتفاق الأئمة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يتلفظون بالنية لا سرا ولا جهرا وهذا القول هو الصواب الذي جاءت به السنة .
[ ص: 247 ] وأما nindex.php?page=treesubj&link=1557_1558_1559_22736رفع اليدين في كل تكبيرة حتى في السجود فليست هي السنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها ولكن الأمة متفقة على أنه يرفع اليدين مع تكبيرة الافتتاح .
وأما رفعهما عند الركوع والاعتدال من الركوع فلم يعرفه أكثر فقهاء الكوفة . كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة والثوري وغيرهم . وأما أكثر فقهاء الأمصار وعلماء الآثار فإنهم عرفوا ذلك - لما أنه استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم - كالأوزاعي والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=12074وأبي عبيد وهو إحدى الروايتين عن مالك .
فإنه قد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره { nindex.php?page=hadith&LINKID=4116أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع ولا يفعل ذلك في السجود ولا كذلك بين السجودين } وثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح : من حديث مالك بن الحويرث nindex.php?page=showalam&ids=101ووائل بن حجر nindex.php?page=showalam&ids=187وأبي حميد الساعدي : في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم أبو قتادة وهو معروف من حديث nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=3وأبي هريرة وعدد كثير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا رأى من يصلي ولا يرفع يديه في الصلاة حصبه . وقال عقبة ابن عامر : له بكل إشارة عشر حسنات .
[ ص: 248 ] والكوفيون حجتهم أن nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لم يكن يرفع يديه وهم معذورون قبل أن تبلغهم السنة الصحيحة ; فإن nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود هو الفقيه الذي بعثه nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ليعلم أهل الكوفة السنة ; لكن قد حفظ الرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وابن مسعود لم يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا أول مرة ; لكنهم رأوه يصلي ولا يرفع إلا أول مرة . والإنسان قد ينسى وقد يذهل وقد خفي على ابن مسعود التطبيق في الصلاة ; فكان يصلي وإذا ركع طبق بين يديه كما كانوا يفعلون أول الإسلام . ثم إن التطبيق نسخ بعد ذلك وأمروا بالركب وهذا لم يحفظه ابن مسعود ; فإن الرفع المتنازع فيه ليس من نواقض الصلاة ; بل يجوز أن يصلي بلا رفع وإذا رفع كان أفضل وأحسن .
وإذا nindex.php?page=treesubj&link=22313كان الرجل متبعا لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد : ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى فاتبعه كان قد أحسن في ذلك ولم يقدح ذلك في دينه . ولا عدالته بلا نزاع ; بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وسلم كمن يتعصب لمالك أو الشافعي أو أحمد أو أبي حنيفة ويرى أن قول هذا المعين هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول الإمام الذي خالفه .
[ ص: 249 ] فمن فعل هذا كان جاهلا ضالا ; بل قد يكون كافرا ; فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع واحد بعينه من هؤلاء الأئمة دون الإمام الآخر فإنه يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل . بل غاية ما يقال : إنه يسوغ أو ينبغي أو يجب على العامي أن يقلد واحدا لا بعينه من غير تعيين زيد ولا عمرو .
وأما أن nindex.php?page=treesubj&link=22311_22312يقول قائل : إنه يجب على العامة تقليد فلان أو فلان فهذا لا يقوله مسلم .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=34937مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر } . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=11495المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا - وشبك بين أصابعه - } . وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=90002المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه } . وفي الصحيحين أنه قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=68914والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه } . وقال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=39755والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم . أفشوا السلام بينكم } .
[ ص: 252 ] فأئمة الدين هم على منهاج الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والصحابة كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة في الطهارة أو الصلاة أو الحج أو الطلاق أو الفرائض أو غير ذلك فإجماعهم حجة قاطعة .
nindex.php?page=treesubj&link=22312ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين . كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة . وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما . فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم . فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم .
وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة وأعلمهم بقوله [ ص: 253 ] وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه وهما مع ذلك معظمان لإمامهما . لا يقال فيهما مذبذبان : بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقول القول ثم تتبين له الحجة في خلافه فيقول بها ولا يقال له مذبذب ; فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان . فإذا تبين له من العلم ما كان خافيا عليه اتبعه وليس هذا مذبذبا ; بل هذا مهتد زاده الله هدى . وقد قال تعالى : { nindex.php?page=tafseer&surano=2482&ayano=20وقل رب زدني علما } .
فالواجب nindex.php?page=treesubj&link=22291_26376على كل مؤمن موالاة المؤمنين وعلماء المؤمنين وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب فله أجران ومن اجتهد منهم فأخطأ فله أجر لاجتهاده وخطؤه مغفور له . وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { nindex.php?page=hadith&LINKID=12478إنما جعل الإمام ليؤتم به } وسواء رفع يديه أو لم يرفع يديه لا يقدح ذلك في صلاتهم ولا يبطلها لا عند أبي حنيفة ولا الشافعي ولا مالك ولا أحمد . ولو nindex.php?page=treesubj&link=23311رفع الإمام دون المأموم أو المأموم دون الإمام لم يقدح ذلك في صلاة واحد منهما ولو رفع الرجل في بعض الأوقات دون بعض لم يقدح ذلك في صلاته وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعارا يوجب اتباعه وينهى عن غيره مما جاءت به السنة ; بل كل ما جاءت به السنة فهو واسع : مثل الأذان والإقامة . فقد [ ص: 254 ] ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=52002أنه أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة } . وثبت عنه في الصحيحين { nindex.php?page=hadith&LINKID=68963أنه علم nindex.php?page=showalam&ids=95أبا محذورة الإقامة شفعا شفعا كالأذان } فمن شفع الإقامة فقد أحسن ومن أفردها فقد أحسن ومن أوجب هذا دون هذا فهو مخطئ ضال ومن والى من يفعل هذا دون هذا بمجرد ذلك فهو مخطئ ضال .
nindex.php?page=treesubj&link=22311_28333وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم في المذاهب وغيرها حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا . وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا . وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه .
وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المتبعين الظن وما تهوى الأنفس المتبعين لأهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب . وهذا باب واسع لا تحتمل هذه الفتيا لبسطه ; فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب [ ص: 255 ] والسنة إلا ما شاء الله بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة أو آراء فاسدة أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ قد تكون صدقا وقد تكون كذبا وإن كانت صدقا فليس صاحبها معصوما يتمسكون بنقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ويدعون النقل المصدق عن القائل المعصوم وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودونوه في الكتب الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم .