nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3nindex.php?page=treesubj&link=28976_32268_34038اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
إن كانت آية
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم نزلت يوم حجة الوداع بعد آية
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم يئس الذين كفروا من دينكم بنحو العامين ، كما قال
الضحاك ، كانت جملة مستقلة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبيء - صلى الله عليه وسلم - بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدين ، اعتقادا وتشريعا ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معا يوم الحج الأكبر ، عام حجة الوداع ، وهو ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن
ابن زيد وآخرين . وفي كلام
ابن عطية أنه منسوب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ، وذلك هو الراجح الذي عول عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليوم المذكور في هذه وفي التي قبلها يوما واحدا ، وكانت هذه الجملة تعدادا لمنة أخرى ، وكان فصلها عن التي قبلها جاريا على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ ( اليوم ) ليتعلق بقوله ( أكملت ) ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلق بقوله ( يئس ) فلم يقل : ( وأكملت لكم دينكم ) .
[ ص: 103 ] والدين : ما كلف الله به الأمة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=19إن الدين عند الله الإسلام في سورة آل عمران .
nindex.php?page=treesubj&link=28643_34038فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44لتبين للناس ما نزل إليهم بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة ، كافيا في هدي الأمة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافيا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأت أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثم اتسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكن رسوخه ، حتى استكملت جامعة المسلمين كل شئون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمة كأكمل ما تكون أمة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذ . وليس في ذلك ما يشعر بأن الدين كان ناقصا ، ولكن أحوال الأمة في الأممية غير مستوفاة ، فلما توفرت كمل الدين لهم ، فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعله ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنه تأكيد لما تقرر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنة . فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، مما فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنها نزلت قبل هذه الآية وأن هذه الآية لما نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لم ينزل على النبيء بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أن المسلمين أضاعوا كل أثارة من علم - والعياذ بالله - ولم يبق بينهم إلا القرآن لاستطاعوا
[ ص: 104 ] الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال
الشاطبي القرآن ، مع اختصاره ، جامع . ولا يكون جامعا إلا والمجموع فيه أمور كلية ، لأن
nindex.php?page=treesubj&link=28976_34038الشريعة تمت بتمام نزوله لقوله تعالى ( nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم ) ، وأنت تعلم : أن الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبين جميع أحكامها في القرآن ، إنما بينتها السنة ، وكذلك العاديات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية ، وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريات ، والحاجيات ، والتحسينات ومكمل كل واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلة : وهو السنة ، والإجماع ، والقياس ، إنما نشأ عن القرآن . وفي الصحيح عن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341612لعن الله الواشمات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله " ، فبلغ كلامه امرأة من
بني أسد يقال لها :
أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : " لعنت كذا وكذا " فذكرته ، فقال
عبد الله : " وما لي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله " ، فقالت المرأة : " لقد قرأت ما بين لوحي المصحف ، فما وجدته " ، فقال : " لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه " . قال الله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا اهـ . فكلام
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود يشير إلى أن القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنه الحجة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أن المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأن كلياته وأوامره المفصلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمة ، المتلقين عنه ، ولذلك لما اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبيء لهم كتابا في مرضه قال
عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أن أحدا قصر نفسه على علم القرآن فوجد ( أقيموا الصلاة )
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=141وآتوا حقه يوم حصاده و
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كتب عليكم الصيام و
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وأتموا الحج والعمرة لله ، لتطلب بيان ذلك مما تقرر من عمل سلف الأمة ،
[ ص: 105 ] وأيضا ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83لعلمه الذين يستنبطونه منهم .
فلا شك أن أمر الإسلام بدأ ضعيفا . ثم أخذ يظهر ظهور سنا الفجر ، وهو في ذلك كله دين ، يبين لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وقد أسلم كثير من أهل
مكة ، ومعظم أهل
المدينة ، فلما هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لما فتح الله
مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكن الدين وخدمته القوة ، فأصبح مرهوبا بأسه ، ومنع المشركين من الحج بعد عام ، فحج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تبين واضحا يوم الحج الذي نزلت فيه هذه الآية .
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأن الدين في كل يوم ، من وقت البعثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوما فيوما ، فمن كان من المسلمين آخذا بكل ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .
وفي هذه الآية دليل على وقوع
nindex.php?page=treesubj&link=21342تأخير البيان إلى وقت الحاجة .
وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح
مكة ، كما يروى عن
مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسر في الحديث بما يشمل الحج ، إذ قد مكنهم يومئذ
[ ص: 106 ] من أداء حجهم دون معارض ، وقد كمل أيضا سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكنه من قلب بلاد العرب ، فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .
ولا يصح أن يكون المراد من الدين القرآن : لأن آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقية سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنها آخر آية نزلت ، وسورة
nindex.php?page=tafseer&surano=110&ayano=1إذا جاء نصر الله كذلك ، وقد عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آية
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم نحوا من تسعين يوما ، يوحى إليه .
ومعنى ( اليوم ) في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم ) نظير معناه في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم يئس الذين كفروا من دينكم .
nindex.php?page=treesubj&link=28976_34038وقوله nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3وأتممت عليكم نعمتي إتمام النعمة : هو خلوصها مما يخالطها : من الحرج ، والتعب .
وظاهره أن الجملة معطوفة على جملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3أكملت لكم دينكم ) فيكون متعلقا للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلا يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكنهم من الحج آمنين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوع إليهم أعداءهم يوم حجة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمها عليهم ، فلذلك قيد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجة الوداع على أصح الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح
مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفا ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أن مكنهم من أشد أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله ( أكملت لكم دينكم ) إلا على تأويلات بعيدة .
وظاهر العطف يقتضي : أن تمام النعمة منة أخرى غير إكمال الدين ،
[ ص: 107 ] وهي نعمة النصر ، والأخوة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عام على خاص . وجوزوا أن يكون المراد من النعمة الدين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحدا ، ويكون العطف لمجرد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أن الدين نعمة وأن إكماله إتمام للنعمة ; فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده
الفراء في معاني القرآن :
إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم
nindex.php?page=treesubj&link=34038_28976وقوله nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3ورضيت لكم الإسلام دينا الرضى بالشيء الركون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئا لنفسه فيقول : رضيت بكذا ، وقد يرضى شيئا لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدى باللام : للدلالة على أن رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341613إن الله يرضى لكم ثلاثا ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله ( لكم ) وعدي ( رضيت ) إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أن جملة ( رضيت ) معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأن تعلق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام دينا اليوم . وإذ قد كان رضى الإسلام دينا للمسلمين ثابتا في علم الله ذلك اليوم وقبله ، تعين التأويل في تعليق ذلك الظرف بـ ( رضيت ) ; فتأوله صاحب الكشاف بأن المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله ( اليوم ) ، لأن الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به دينا لهم يومئذ ، لأن الرضى به حاصل من قبل ، كما دلت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أن ( رضيت ) مجاز في معنى ( أذنت ) لعدم استقامة ذلك : لأنه يزول منه معنى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنه لا يصلح للتعدي إلى قوله ( الإسلام ) . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعينة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل
[ ص: 108 ] هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيرا في الدلالة على كون المخبر عالما به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .
وقد يدل قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3ورضيت لكم الإسلام دينا ) على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28640_28639هذا الدين دين أبدي : لأن الشيء المختار المدخر لا يكون إلا أنفس ما أظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أن نسخ الأحكام قد انتهى .
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3nindex.php?page=treesubj&link=28976_32268_34038الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .
إِنْ كَانَتْ آيَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَزَلَتْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ آيَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ بِنَحْوِ الْعَامَيْنِ ، كَمَا قَالَ
الضَّحَّاكُ ، كَانَتْ جُمْلَةً مُسْتَقِلَّةً ، ابْتِدَائِيَّةً ، وَكَانَ وُقُوعُهَا فِي الْقُرْآنِ ، عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا ، بِتَوْقِيفِ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجَمْعِهَا مَعَ نَظِيرِهَا فِي إِكْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ ، اعْتِقَادًا وَتَشْرِيعًا ، وَكَانَ الْيَوْمُ الْمَعْهُودُ فِي هَذِهِ غَيْرَ الْيَوْمِ الْمَعْهُودِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَإِنْ كَانَتَا نَزَلَتَا مَعًا يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ عَنِ
ابْنِ زَيْدٍ وَآخَرِينَ . وَفِي كَلَامِ
ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَذَلِكَ هُوَ الرَّاجِحُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مُوَافَقَةِ التِّلَاوَةِ لِلنُّزُولِ ، كَانَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا يَوْمًا وَاحِدًا ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْدَادًا لِمِنَّةٍ أُخْرَى ، وَكَانَ فَصْلُهَا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا جَارِيًا عَلَى سِنَنِ الْجُمَلِ الَّتِي تُسَاقُ لِلتَّعْدَادِ فِي مِنَّةٍ أَوْ تَوْبِيخٍ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ : أُعِيدَ لِفَظُ ( الْيَوْمَ ) لِيَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ ( أَكْمَلْتُ ) ، وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالظَّرْفِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ ( يَئِسَ ) فَلَمْ يَقُلْ : ( وَأَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) .
[ ص: 103 ] وَالدِّينُ : مَا كَلَّفَ اللَّهُ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ مَجْمُوعِ الْعَقَائِدِ ، وَالْأَعْمَالِ ، وَالشَّرَائِعِ ، وَالنُّظُمِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=19إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ .
nindex.php?page=treesubj&link=28643_34038فَإِكْمَالُ الدِّينِ هُوَ إِكْمَالُ الْبَيَانِ الْمُرَادِ لِلَّهِ تَعَالَى الَّذِي اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ تَنْجِيمُهُ ، فَكَانَ بَعْدَ نُزُولِ أَحْكَامِ الِاعْتِقَادِ ، الَّتِي لَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ جَهْلُهَا ، وَبَعْدَ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي آخِرُهَا الْحَجُّ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَبَعْدَ بَيَانِ شَرَائِعِ الْمُعَامَلَاتِ وَأُصُولِ النِّظَامِ الْإِسْلَامِيِّ ، كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَدْ تَمَّ الْبَيَانُ الْمُرَادُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=89وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=44لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ بِحَيْثُ صَارَ مَجْمُوعُ التَّشْرِيعِ الْحَاصِلِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، كَافِيًا فِي هَدْيِ الْأُمَّةِ فِي عِبَادَتِهَا ، وَمُعَامَلَتِهَا ، وَسِيَاسَتِهَا ، فِي سَائِرِ عُصُورِهَا ، بِحَسَبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَاتُهَا ، فَقَدْ كَانَ الدِّينُ وَافِيًا فِي كُلِّ وَقْتٍ بِمَا يَحْتَاجُهُ الْمُسْلِمُونَ . وَلَكِنِ ابْتَدَأَتْ أَحْوَالُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بَسِيطَةً ثُمَّ اتَّسَعَتْ جَامِعَتُهُمْ ، فَكَانَ الدِّينُ يَكْفِيهِمْ لِبَيَانِ الْحَاجَاتِ فِي أَحْوَالِهِمْ بِمِقْدَارِ اتِّسَاعِهَا ، إِذْ كَانَ تَعْلِيمُ الدِّينِ بِطَرِيقِ التَّدْرِيجِ لِيَتَمَكَّنَ رُسُوخُهُ ، حَتَّى اسْتَكْمَلَتْ جَامِعَةُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ شُئُونِ الْجَوَامِعِ الْكُبْرَى ، وَصَارُوا أُمَّةً كَأَكْمَلِ مَا تَكُونُ أُمَّةً ، فَكَمُلَ مِنْ بَيَانِ الدَّيْنِ مَا بِهِ الْوَفَاءُ بِحَاجَاتِهِمْ كُلِّهَا ، فَذَلِكَ مَعْنَى إِكْمَالِ الدِّينِ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الدِّينَ كَانَ نَاقِصًا ، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ فِي الْأُمَمِيَّةِ غَيْرُ مُسْتَوْفَاةٍ ، فَلَمَّا تَوَفَّرَتْ كَمُلَ الدِّينُ لَهُمْ ، فَلَا إِشْكَالَ عَلَى الْآيَةِ . وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لَعَلَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَشْرِيعُ شَيْءٍ جَدِيدٍ ، وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَرَّرَ تَشْرِيعُهُ مِنْ قَبْلُ بِالْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ . فَمَا نَجِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَاتِ ، بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، مِمَّا فِيهِ تَشْرِيعٌ أَنَفَ مِثْلُ جَزَاءِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ ، نَجْزِمُ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ أُمِرَ بِوَضْعِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : لَمْ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيءِ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْلِيلٌ وَلَا تَحْرِيمٌ وَلَا فَرْضٌ . فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَضَاعُوا كُلَّ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْقُرْآنُ لَاسْتَطَاعُوا
[ ص: 104 ] الْوُصُولَ بِهِ إِلَى مَا يَحْتَاجُونَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ . قَالَ
الشَّاطِبِيُّ الْقُرْآنُ ، مَعَ اخْتِصَارِهِ ، جَامِعٌ . وَلَا يَكُونُ جَامِعًا إِلَّا وَالْمَجْمُوعُ فِيهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ ، لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28976_34038الشَّرِيعَةَ تَمَّتْ بِتَمَامِ نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ : أَنَّ الصَّلَاةَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالْجِهَادَ ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ ، لَمْ تُبَيَّنْ جَمِيعُ أَحْكَامِهَا فِي الْقُرْآنِ ، إِنَّمَا بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ ، وَكَذَلِكَ الْعَادِيَاتُ مِنَ الْعُقُودِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ، فَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى رُجُوعِ الشَّرِيعَةِ إِلَى كُلِّيَّاتِهَا الْمَعْنَوِيَّةِ ، وَجَدْنَاهَا قَدْ تَضَمَّنَهَا الْقُرْآنُ عَلَى الْكَمَالِ ، وَهِيَ : الضَّرُورِيَّاتُ ، وَالْحَاجِيَّاتُ ، وَالتَّحْسِينَاتُ وَمُكَمِّلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، فَالْخَارِجُ عَنِ الْكِتَابِ مِنَ الْأَدِلَّةِ : وَهُوَ السُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ ، إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْقُرْآنِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341612لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْوَاصِلَاتِ وَالْمُسْتَوْصِلَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ " ، فَبَلَغَ كَلَامُهُ امْرَأَةً مِنْ
بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا :
أُمُّ يَعْقُوبَ ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ : " لَعَنْتَ كَذَا وَكَذَا " فَذَكَرَتْهُ ، فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ : " وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ " ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ : " لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ ، فَمَا وَجَدْتُهُ " ، فَقَالَ : " لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ " . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=7وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا اهـ . فَكَلَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ جَامِعُ أُصُولِ الْأَحْكَامِ ، وَأَنَّهُ الْحُجَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، إِذْ قَدْ بَلَغَ لِجَمِيعِهِمْ وَلَا يَسَعُهُمْ جَهْلُ مَا فِيهِ ، فَلَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ غَيْرُ الْقُرْآنِ لَكَفَاهُمْ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ ، لِأَنَّ كُلِّيَّاتِهِ وَأَوَامِرَهُ الْمُفَصَّلَةَ ظَاهِرَةُ الدَّلَالَةِ ، وَمُجْمَلَاتِهِ تَبْعَثُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَعَرُّفِ بَيَانِهَا مِنِ اسْتِقْرَاءِ أَعْمَالِ الرَّسُولِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ ، الْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي شَأْنِ كِتَابَةِ النَّبِيءِ لَهُمْ كِتَابًا فِي مَرَضِهِ قَالَ
عُمَرُ : حَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ ، فَلَوْ أَنَّ أَحَدًا قَصَرَ نَفْسَهُ عَلَى عِلْمِ الْقُرْآنِ فَوَجَدَ ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ )
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=141وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حِصَادِهِ وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=183كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=196وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ، لَتَطَلَّبَ بَيَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَرَّرَ مِنْ عَمَلِ سَلَفِ الْأُمَّةِ ،
[ ص: 105 ] وَأَيْضًا فَفِي الْقُرْآنِ تَعْلِيمُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=83لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ .
فَلَا شَكَّ أَنَّ أَمْرَ الْإِسْلَامِ بَدَأَ ضَعِيفًا . ثُمَّ أَخَذَ يَظْهَرُ ظُهُورَ سَنَا الْفَجْرِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ دِينٌ ، يُبَيِّنُ لِأَتْبَاعِهِ الْخَيْرَ وَالْحَرَامَ وَالْحَلَالَ ، فَمَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا وَقَدْ أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ ، وَمُعْظَمُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ أَخَذَ الدِّينُ يَظْهَرُ فِي مَظْهَرِ شَرِيعَةٍ مُسْتَوْفَاةٍ فِيهَا بَيَانُ عِبَادَةِ الْأُمَّةِ ، وَآدَابِهَا ، وَقَوَانِينَ تَعَامُلِهَا ، ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
مَكَّةَ وَجَاءَتِ الْوُفُودُ مُسْلِمِينَ ، وَغَلَبَ الْإِسْلَامُ عَلَى بِلَادِ الْعَرَبِ ، تَمَكَّنَ الدِّينُ وَخَدَمَتْهُ الْقُوَّةُ ، فَأَصْبَحَ مَرْهُوبًا بَأْسُهُ ، وَمَنَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحَجِّ بَعْدَ عَامٍ ، فَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ عَشَرَةٍ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَجْلَى مَظَاهِرِ كَمَالِ الدِّينِ : بِمَعْنَى سُلْطَانِ الدِّينِ وَتَمْكِينِهِ وَحِفْظِهِ ، وَذَلِكَ تَبَيَّنَ وَاضِحًا يَوْمَ الْحَجِّ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةُ .
لَمْ يَكُنِ الدِّينُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ غَيْرَ كَافٍ لِأَتْبَاعِهِ : لِأَنَّ الدِّينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، مِنْ وَقْتِ الْبَعْثَةِ ، هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمِقْدَارِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آخِذًا بِكُلِّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْإِسْلَامِ ، فَإِكْمَالُ الدِّينِ يَوْمَ نُزُولِ الْآيَةِ إِكْمَالٌ لَهُ فِيمَا يُرَادُ بِهِ ، وَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ كَامِلٌ فِيمَا يُرَادُ مِنْ أَتْبَاعِهِ الْحَاضِرِينَ .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ
nindex.php?page=treesubj&link=21342تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ .
وَإِذَا كَانَتِ الْآيَةُ نَازِلَةً يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ ، كَمَا يُرْوَى عَنْ
مُجَاهِدٍ ، فَإِكْمَالُ الدِّينِ إِكْمَالُ بَقِيَّةِ مَا كَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْهُ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ ، إِذِ الْإِسْلَامُ قَدْ فُسِّرَ فِي الْحَدِيثِ بِمَا يَشْمَلُ الْحَجَّ ، إِذْ قَدْ مَكَّنَهُمْ يَوْمَئِذٍ
[ ص: 106 ] مِنْ أَدَاءِ حَجِّهِمْ دُونَ مُعَارِضٍ ، وَقَدْ كَمُلَ أَيْضًا سُلْطَانُ الدِّينِ بِدُخُولِ الرَّسُولِ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي أَخْرَجُوهُ مِنْهُ ، وَمَكَّنَهُ مِنْ قَلْبِ بِلَادِ الْعَرَبِ ، فَالْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ دِينُ الْإِسْلَامِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِتَشْرِيفِهِمْ بِذَلِكَ .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْقُرْآنَ : لِأَنَّ آيَاتٍ كَثِيرَةً نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَآيَةُ الْكَلَالَةِ ، الَّتِي فِي آخِرِ النِّسَاءِ ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ ، وَسُورَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=110&ayano=1إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ كَذَلِكَ ، وَقَدْ عَاشَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نَحْوًا مِنْ تِسْعِينَ يَوْمًا ، يُوحَى إِلَيْهِ .
وَمَعْنَى ( الْيَوْمَ ) فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) نَظِيرُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ .
nindex.php?page=treesubj&link=28976_34038وَقَوْلُهُ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي إِتْمَامُ النِّعْمَةِ : هُوَ خُلُوصُهَا مِمَّا يُخَالِطُهَا : مِنَ الْحَرَجِ ، وَالتَّعَبِ .
وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا لِلظَّرْفِ وَهُوَ الْيَوْمُ ، فَيَكُونُ تَمَامُ النِّعْمَةِ حَاصِلًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ . وَإِتْمَامُ هَذِهِ النِّعْمَةِ هُوَ زَوَالُ مَا كَانُوا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الْخَوْفِ فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْحَجِّ آمِنِينَ ، مُؤْمِنِينَ ، خَالِصِينَ ، وَطَوَّعَ إِلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ فِي نِعْمَةٍ فَأَتَمَّهَا عَلَيْهِمْ ، فَلِذَلِكَ قَيَّدَ إِتْمَامَ النِّعْمَةِ بِذَلِكَ الْيَوْمِ ، لِأَنَّهُ زَمَانُ ظُهُورِ هَذَا الْإِتْمَامِ : إِذِ الْآيَةُ نَازِلَةٌ يَوْمَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ ، فَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِذَلِكَ ضَعِيفًا ، فَتَمَامُ النِّعْمَةِ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : أَنْ مَكَّنَهُمْ مِنْ أَشَدِّ أَعْدَائِهِمْ ، وَأَحْرَصِهِمْ عَلَى اسْتِئْصَالِهِمْ ، لَكِنْ يُنَاكِدُهُ قَوْلُهُ ( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) إِلَّا عَلَى تَأْوِيلَاتٍ بَعِيدَةٍ .
وَظَاهِرُ الْعَطْفِ يَقْتَضِي : أَنَّ تَمَامَ النِّعْمَةِ مِنَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ إِكْمَالِ الدِّينِ ،
[ ص: 107 ] وَهِيَ نِعْمَةُ النَّصْرِ ، وَالْأُخُوَّةِ ، وَمَا نَالُوهُ مِنَ الْمَغَانِمِ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا إِكْمَالُ الدِّينِ ، فَهُوَ عَطْفٌ عَامٌّ عَلَى خَاصٍّ . وَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النِّعْمَةِ الدِّينَ ، وَإِتْمَامُهَا هُوَ إِكْمَالُ الدِّينِ ، فَيَكُونُ مُفَادُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدًا ، وَيَكُونُ الْعَطْفُ لِمُجَرَّدِ الْمُغَايَرَةِ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ ، لِيُفِيدَ أَنَّ الدِّينَ نِعْمَةٌ وَأَنَّ إِكْمَالَهُ إِتْمَامٌ لِلنِّعْمَةِ ; فَهَذَا الْعَطْفُ كَالَّذِي فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ أَنْشَدَهُ
الْفَرَّاءُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ :
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرَمِ وَابْنِ الْهُمَا مِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ
nindex.php?page=treesubj&link=34038_28976وَقَوْلُهُ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الرِّضَى بِالشَّيْءِ الرُّكُونُ إِلَيْهِ وَعَدَمُ النَّفْرَةِ مِنْهُ ، وَيُقَابِلُهُ السُّخْطُ : فَقَدْ يَرْضَى أَحَدٌ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فَيَقُولُ : رَضِيتُ بِكَذَا ، وَقَدْ يَرْضَى شَيْئًا لِغَيْرِهِ ، فَهُوَ بِمَعْنَى اخْتِيَارِهِ لَهُ ، وَاعْتِقَادِهِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ ، فَيُعَدَّى بِاللَّامِ : لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ رِضَاهُ لِأَجْلِ غَيْرِهِ ، كَمَا تَقُولُ : اعْتَذَرْتُ لَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341613إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ هُنَا ، فَلِذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهُ ( لَكُمْ ) وَعُدِّيَ ( رَضِيتُ ) إِلَى الْإِسْلَامِ بِدُونِ الْبَاءِ . وَظَاهِرُ تَنَاسُقِ الْمَعْطُوفَاتِ : أَنَّ جُمْلَةَ ( رَضِيتُ ) مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ تَعَلُّقَ الظَّرْفِ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ سَارَ إِلَى الْمَعْطُوفَيْنِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا الْيَوْمَ . وَإِذْ قَدْ كَانَ رِضَى الْإِسْلَامِ دِينًا لِلْمُسْلِمِينَ ثَابِتًا فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَقَبْلَهُ ، تَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ فِي تَعْلِيقِ ذَلِكَ الظَّرْفِ بِـ ( رَضِيتُ ) ; فَتَأَوَّلَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ بِأَنَّ الْمَعْنَى : آذَنْتُكُمْ بِذَلِكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ : يَعْنِي أَيْ هَذَا التَّأْوِيلُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ ( الْيَوْمَ ) ، لِأَنَّ الَّذِي حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ إِعْلَانُ ذَلِكَ ، وَالْإِيذَانُ بِهِ ، لَا حُصُولَ رِضَى اللَّهِ بِهِ دِينًا لَهُمْ يَوْمَئِذٍ ، لِأَنَّ الرِّضَى بِهِ حَاصِلٌ مِنْ قَبْلُ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ سَابِقَةٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ . فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ( رَضِيتُ ) مَجَازٌ فِي مَعْنَى ( أَذَنْتُ ) لِعَدَمِ اسْتِقَامَةِ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ يَزُولُ مِنْهُ مَعْنَى اخْتِيَارِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعَدِّي إِلَى قَوْلِهِ ( الْإِسْلَامَ ) . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَدَلَالَةُ الْخَبَرِ عَلَى مَعْنَى الْإِيذَانِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ الْمُعَيَّنَةِ ، فَيَكُونُ مِنَ الْكِنَايَةِ فِي التَّرْكِيبِ . وَلَوْ شَاءَ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَ
[ ص: 108 ] هَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْخَبَرِ فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ ، فَكَمَا اسْتُعْمِلَ الْخَبَرُ كَثِيرًا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُخْبِرِ عَالِمًا بِهِ ، اسْتُعْمِلَ هُنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِعْلَامِ وَإِعْلَانِهِ .
وَقَدْ يَدُلُّ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28640_28639هَذَا الدِّينَ دِينٌ أَبَدِيٌّ : لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُخْتَارَ الْمُدَّخَرَ لَا يَكُونُ إِلَّا أَنْفَسَ مَا أُظْهِرَ مِنَ الْأَدْيَانِ ، وَالْأَنْفَسُ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ إِذْ لَيْسَ بَعْدَهُ غَايَةٌ ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُشِيرَةً إِلَى أَنَّ نَسْخَ الْأَحْكَامِ قَدِ انْتَهَى .