الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالأصل في الدعوة إلى الله الرفق واللين والموعظة الحسنة، لأن هذا أدعى للتأثير على المدعو وتأليف قلبه، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {النحل: 125}. وروى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما كان الرفق في شيء قط إلا زانه، ولا عزل عن شيء إلا شانه.
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التلطف بالمدعو ولو كان كافرا، وفي سيرته كثير من الأمثلة التي تدل على هذا، ولمزيد الفائدة يمكن مراجعة الفتوى رقم: 69817.
وقد كان عليه الصلاة والسلام يجد من المشركين كثيرا من الأذى والسب والشتم فيصبر على ذلك، ولا يخفى ما حدث له من أهل الطائف حين ذهب إليهم يدعوهم إلى الله، ولعل من المناسب أن نذكر هنا كلاما نفيسا ذكره ابن العربي في كتابه أحكام القرآن عند تفسير الآية التي ذكرها السائل وهي قول الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {العنكبوت: 46}، فقد قال رحمه الله: قال قتادة: وهي منسوخة بآية القتال فإنه رفع الجدال، وقد بينا في القسم الثاني أنها ليست منسوخة وإنما هي مخصوصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث باللسان يقاتل به في الله، ثم أمره الله بالسيف واللسان حتى قامت الحجة على الخلق لله وتبين العناد وبلغت القدرة غايتها عشرة أعوام متصلة، فمن قدر عليه قتل ومن امتنع بقي الجدال في حقه ولكن بما يحسن من الأدلة ويجمل من الكلام بأن يكون منك للخصم تمكين وفي خطابك له لين وأن تستعمل من الأدلة أظهرها وأنورها وإذا لم يفهم المجادل أعاد عليه الحجة وكررها كما فعل الخليل مع الكافر حين قال له إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، فقال له الكافر أنا أحيي وأميت، فحسن الجدال ونقل إلى أبين منه بالاستدلال، وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، وهو انتقال من حق إلى حق أظهر منه ومن دليل إلى دليل أبين منه وأنور. اهـ.
وأما مجاراة أعداء الله فيما قد يقع منهم من سب وشتم فيترتب عليه في غالب الأحيان منكر أكبر، ولذا قال الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ {الأنعام: 108}.
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين معلقا على هذه الآية: فحرم الله سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز. اهـ.
وهذا أصل ينبغي الوقوف عنده فالجهل به قد يوقع الأمة في كثير من الحرج والمشقة والعنت.
وأما قول الله تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ {التوبة: 73} فقد أشار ابن العربي إلى أن المراد الجزم والجد في التعامل معهم لا الإغلاظ في القول حيث قال: الغلظة نقيض الرأفة وهي شدة القلب وقوته على إحلال الأمر بصاحبه وليس ذلك في اللسان فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب. اهـ ، والحديث الذي ذكره متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.
وأما آيات رد الاعتداد بالمثل فإنها أولا نزلت بشأن الجهاد ثم إنها ليست على إطلاقها، بل لها قيودها، ففي الأمور العظيمة التي قد تخص عموم الأمة كالجهاد والقصاص مثلا فالمرجع في ذلك إلى الحاكم لا إلى عامة الناس وإلا كانت الفوضى، ومن اعتدى بمعصية لا يعتدى عليه بمعصية مثلها فإذا كان هو قد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يسب المسلم عيسى عليه السلام، فكما أن سب محمد صلى الله عليه وسلم كفر فكذلك سب عيسى عليه السلام كفر، وفي حالة ما إذا جاز رد الاعتداء بالمثل كما في مسألة الظفر بالحق فإن هذا مقيد بأن لا يترتب على ذلك مفسدة كأن يعد المرء بذلك سارقا.
قال ابن العربي: أما من أباح دمك فمباح دمه لك لكن بحكم الحاكم لا باستطالتك وأخذ لثأرك بيدك ولا خلاف فيه، وأما من أخذ مالك فخذ ماله إذا تمكنت منه إذا كان من جنس مالك طعاما بطعام وذهبا بذهب، وقد آمنت من أن تعد سارقا. اهـ.
والراجح في مسألة الظفر بالحق أنه يجوز للمظلوم أن يأخذ من مال الظالم ولو لم يكن من جنس ماله، وراجع الفتوى رقم: 8780 ، ولمزيد الفائدة فيما يتعلق بأسس دعوة النصارى إلى الإسلام راجع الفتاوى: 20818، 94521، 10326، 30506. .
والله أعلم.