الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الأمهات داخلات في عموم هذه الفقرة ويدخل معهن أهل البيت على الراجح لأنها جزء من آية وردت ضمن آيات نازلة فيهن ودلالة العام على صورة السبب قطعية.
قال علامة الأصول السبكي في شرح المنهاج مبيناً فوائد معرفة أسباب النزول قال: ومن فوائد ذلك امتناع إخراج صورة السبب عن العموم بالاجتهاد، فمنه لا يجوز إخراج تلك الصورة التي ورد عليه السبب بالإجماع نص عليه القاضي في مختصر التقريب والآمدي في الأحكام وطائفة.
وقال ابن كثير في تفسيره هذه الآية: إنها نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهكذا روى ابن أبي حاتم قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وقال عكرمة من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم.. فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ففي هذا نظر فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك... انتهى.
وأما ما روي مسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم بالله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، فقال له حصين بن سبرة: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم.
فإن قوله (نساؤه من أهل بيته) يفيد إقرار كونهن من أهل البيت ثم عقب بأن أهل بيته لا يقتصر عليهن بل إن من أهل بيته من ذكرهم وهم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس... وجاء في رواية أخرى عن زيد في صحيح مسلم ما يفيد تأكيد كونهن لسن من أهل البيت ففي تلك الرواية: فقلنا من أهل بيته نساؤه، قال: لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
وهذه الرواية محمولة على أن المراد أنهن لسن من أهل البيت الذين تحرم عليهم الصدقة والمسألة فيها خلاف وقيل المراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية وهذا على كل مذهب صحابي لا ترد به دلالة الآية الواضحة في كون الأمهات من أهل البيت، وقد روى البيهقي في السنن عن أم سلمة قالت: في بيتي أنزلت: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي، قالت: فقلت: يا رسول الله أما أنا من أهل البيت، قال: بلى إن شاء الله تعالى. قال أبو عبد الله: هذا حديث صحيح سنده ثقات رواته... وقد روي في شواهده ثم في معارضته أحاديث لا يثبت مثلها وفي كتاب الله البيان لما قصدناه في إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الآل ومراده من ذلك أزواجه أو هن داخلات فيه. انتهى.
وقال النووي في شرح هذه الرواية: وأما قوله في الرواية الأخرى نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة قال: وفي الرواية الأخرى فقلنا من أهل بيته نساؤه، قال: لا فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال نساؤه لسن من أهل بيته فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وأمر باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلاً ووعظ في حقوقهم وذكر فنساؤه داخلات في هذا كله ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة فاتفقت الروايتان. انتهى.
وقال الألوسي في تفسيره: وما روى عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه من نفي كون أزواجه أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية.... فإن الإستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلى الله عليه وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في الآخر...وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت بقوله: أيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقاً فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته أنساؤه إلخ بهمزة الاستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير صحيح مسلم ويكون رضي الله تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة والسلام لسن من أهل البيت أصلاً ولا يلزمنا أن ندين الله تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلى الله تعالى عليه وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى... انتهى.
وقال ابن كثير بعد أن ذكر الروايات المختلفة للأحاديث: ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا. فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة قاله قتادة وغير واحد. وقال القرطبي بعد أن ذكر الآية: قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته على ما يأتي بيانه بعد... ثم قال: فيه ثلاث مسائل: الأولى قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ. هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت من هم فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة لا رجل معهن وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ.. وقالت فرقة منهم الكلبي: هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة وفي هذا أحاديث عن النبي عليه السلام واحتجوا بقوله تعالى: لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ. بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان عنكن ويطهركن إلا أنه على الصحيح خرج على لفظ الأهل كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك أي امرأتك ونساؤك فيقول: هم بخير، قال الله تعالى: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ. والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم وإنما قال: ويطهركم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كانوا فيهم وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام. والله أعلم.. أما أن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال: هؤلاء أهل بيتي وقرأ الآية وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله قال: أنت على مكانك وأنت على خير. أخرجه الترمذي وغيره وقال: هذا حديث غريب. انتهى.
والله أعلم.