الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الله تعالى بحكمته ورحمته أيد رسله بآيات بينات، وبراهين ساطعات، تدل بوضوح تام على صدقهم وأمانتهم فيما يبلغون عن ربهم تبارك وتعالى، وقد مضى كل نبي بمعجزته فلم نرها ولم نعايشها، إلا خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بقيت معجزته وآيته الكبرى لتكون حجة تامة على العالمين، وهي هذا القرآن العظيم، والكتاب الكريم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عليه الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إلي، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رواه البخاري ومسلم.
ولهذا كان أولى ما ينبغي للسائلة الكريمة أن تهتم بدراسته وتدبره وتفهمه هو هذا القرآن العظيم، الذي بيَّن الله عز وجل فيه أركان الإيمان وأصول العقيدة أتم بيان وأجمله، بأيسر أسلوب وأسهله، بحيث يستطيع العاقل مهما كانت مؤهلاته، ولو كان بدويا لم ير إلا الصحراء، أن يتقبله ويتفهمه.
ولنأخذ على ذلك مثلا، فعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ. أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ. قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ. رواه البخاري.
فكان سماعه لهذا الآيات الكريمات سبباً في إسلامه وهدايته، وكاد قلبه أن يطير من حسن هذا البيان وروعته، وفصاحته وبلاغته، ومن وضوح الحجة وسطوع الحق، فإن معناها أم خلقوا من غير خالق، وذلك لا يجوز فلا بد لهم من خالق، وإذا أنكروا الخالق فهم الخالقون لأنفسهم، وذلك في الفساد والبطلان أشد؛ لأن ما لا وجود له كيف يخلق، وإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا، ثم قال: أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أي إن جاز لهم أن يدعوا خلق أنفسهم فليدعوا خلق السماوات والأرض، وذلك لا يمكنهم، فقامت الحجة، ثم قال: بَلْ لَا يُوقِنُونَ فذكر العلة التي عاقتهم عن الإيمان، وهو عدم اليقين الذي هو موهبة من الله ولا يحصل إلا بتوفيقه، فلهذا انزعج جبير حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام.
ولذلك سمى الله القرآن فرقانا فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا {الفرقان: 1} فمن أقبل عليه وآمن به انتفع وارتفع، ومن أعرض عنه وجحده خاب وخسر، قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا {الإسراء: 82} وقال عز وجل: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عليهمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ {فصلت: 44}.
فمن أراد الشفاء الناجع، والموعظة الحسنة، والهداية التامة، والرحمة العامة، فعليه بكتاب الله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {يونس: 57}.
فمن درس القرآن وتدبره لابد أن يوقن بأنه كلام الله الحق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {يونس: 37}
قال السعدي في تفسيره: أي: غير ممكن ولا متصور أن يُفترى هذا القرآن على الله تعالى، لأنه الكتاب العظيم الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، وهو الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، وهو كتاب الله الذي تكلم به رب العالمين، فكيف يقدر أحد من الخلق أن يتكلم بمثله، أو بما يقاربه، والكلام تابع لعظمة المتكلم ووصفه، فإن كان أحد يماثل الله في عظمته، وأوصاف كماله، أمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولو تنزلنا على الفرض والتقدير، فتقوله أحد على رب العالمين، لعاجله بالعقوبة، وبادره بالنكال.
والمراد أن الإيمان بالقرآن إن تم واكتمل في القلب صار أصلا للإيمان بكل ما فيه من عقائد وأحكام.
ومن القضايا التي تناولها القرآن المجيد: إثبات صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعدة أساليب، كل واحد منها كاف شاف.
فنوصي السائلة بمدارسة آيات القرآن التي تتناول هذه القضية، كقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إليهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ {النحل: 103-105}.
وقوله عز وجل: فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ علينَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ {الحاقة: 38-52}.
وقوله: وَإِذَا تُتْلَى عليهمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إلي إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عليكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ {يونس: 15-17} فهذا هو مفتاح الإيمان ودليله، وعنوان الفلاح وسبيله.
كما نوصي السائلة بملازمة ذكر الله؛ فهو حصن من الشيطان، وحرز من وسوسته. وجالب لطمأنينة القلب، قال تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {الرعد: 28}.
كما نوصيها بكثرة الدعاء والتضرع واللجوء إلى الله وطلب الهداية منه؛ فإن مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. رواه مسلم.
وقد سبقت عدة فتاوى فيها بيان دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم منها الفتوى رقم: 99787، والفتوى رقم: 63050. والفتوى رقم: 20138
كما سبقت عدة فتاوى عن الأدلة المتلوة والمرئية على وجود الله جل جلاله: 22279، 33504، 46174، 52377، 63790، 75468.
ثم ننبه السائلة على أن ما تعانيه قد يكون وسوسة في أمور الاعتقاد والإيمان، وقد سبق في بيان ذلك وكيفية علاجه كثير من الفتاوى منها: 17066، 2081، 12400، 13369، 18353، 12300، 12436، 28751، 37959، 53313، 63041، 76732.
وأخيرا ننبه السائلة على خطأ قولها في بداية سؤالها: (أنتم الملاذ الأخير لي فقد كاد اليأس يقتلني) فأين إذن الرجاء لرحمة الله تعالى القائل: وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}.
والله أعلم.