الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن الله تعالى هو الذي تولى قسمة المواريث بنفسه، فلا يحل لأحد أن يمنع وارثا حقه في الإرث؛ فقد قال الله تعالى بعد أن بيَّن أنصبة المواريث: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ {النساء: 13-14} قال السعدي: أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف معها وعدم مجاوزتها، ولا القصور عنها. اهـ.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. رواه الترمذي وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وأبو داود وابن ماجه وأحمد. وصححه الألباني.
فمن كان له نصيب في ميراث فله أن يطالب به ولا يتنازل عن شيء منه تلبية لطلب أحد، ولو كان الطالب هو الوالدة، ولا يعني هذا تضييع حقها في البر، بل يجب برها ويحرم عقوقها حرمة شديدة. ولو تنازلتن عن حقكن وسامحتن إخوتكن برا بوالدتكن وإحسانا إليها لكان لكن في ذلك من المثوبة ما لا يعلم قدره إلا الله، مع أنه ليس واجبا عليكن كما قدمنا.
فالأخت السائلة وأخواتها مخيرات بين التنازل عن استيفاء حقوقهن كاملة؛ إرضاء للوالدة وصلة لإخوانهن، وهذا أفضل. وبين التمسك بكامل حقوقهن ومحاولة إقناع الوالدة بذلك واسترضائها عليه بشتى الطرق والأساليب التي تليق بمقام الأم. ويمكنك مراجعة الفتويين التاليتين: 60198، 75256.
وننبه السائلة إلى أن إساءة أمها إليها، وسوء معاملتها لها، لا يبرر قطيعتها ولا يضيع حقها. كيف وقد أمر الله بصحبة الوالدين بالمعروف وإن كفرا واجتهدا في إيقاع الأبناء في الشرك بالله تعالى، كما قال عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا {لقمان: 15}. وعَنْ مُعَاذٍ قَالَ: أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ قَالَ: لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُتِلْتَ وَحُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ.. الحديث. رواه أحمد وحسنه الألباني.
وقد عظم الإسلام حق الوالدين، وقرنه بأعظم الحقوق حق الله تعالى، ولم يرض لهما دون مقام الإحسان؛ قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا {النساء: 36) فإن طالبت بحقك فاطلبيه بإحسان، واسترضي أُمَّكِ بقدر الإمكان، واعلموا أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه.
والله أعلم.