الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فدراسة الفقه ومعرفة اختلاف العلماء من أعظم الأشياء إعانة على تحصيل سعة الصدر واحتمال المخالف في مسائل الاجتهاد، فمثلُ هذه المسائل الخلافية لا ينبغي أن تزيل المودة والألفة بين المسلمين، وإذا كان هذا الإمام وفقه الله قد تمسك بعمومات الأدلة القاضية باستحباب التبكير للجمعة ففعل ما يراه سنة لم يجز الإنكار عليه إلا في حدود المناقشة العلمية الهادئة، وما ذهب إليه من استحباب التبكير للإمام يميلُ إليه بعض العلماء كالحافظ ابن حجر فقد قال في الفتح عند كلامه على قوله صلى الله عليه وسلم : فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر: استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام. وما قاله غير ظاهر لإمكان أن يجمع بين الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المُعدّ له في الجامع إلا إذا حضر الوقت. انتهى.
لكن مع ما تقدم فلا بُد من الحرصِ على السنة والاجتهاد في تطبيقها، والذي يظهرُ لنا هو ما أفتى به العلامة العثيمين من أن الإمام لا يُستحب له التبكير للجمعة.
ونحن نهمس في أذن هذا الخطيب الفاضل قائلين له ما استدللت به ليس فيه دليل فكون أحمد وأبي حنيفة يبكرون للجمعة هو المظنون بهم وهم الأئمة الأعلام، ولم يكونوا هم أئمة في الجمعة حتى يُستدل بفعلهم على أن مذهبهم مشروعية التبكير للإمام، فإن إمام الجمعة في هذا الزمن كان ولي الأمر أو عامله على البلد، ولم يكن هؤلاء الأئمة من ولاة الأمر ولا ممن يؤمون الناس في الجمعة، وما أوهمه من أن مذهب الأوزاعي مشروعية التبكير للإمام ليس بشيء.
فما جاء في السير للذهبي: قَالَ الوَلِيْدُ بنُ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِسَعِيْدِ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ: مَنْ أَدْرَكتَ مِنَ التَّابِعِيْنَ كَانَ يُبَكِّرُ إِلَى الجُمُعَةِ؟
قَالَ: مَا رَأَيْتَ أَبَا عَمْرٍو؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ كَفَا مَنْ قَبْلَهُ، فَاقْتَدِ بِهِ، فَلَنِعْمَ المُقْتَدَى.انتهى.
فهذا في تبكير المأموم وليس هو محل النزاع، وما استنبطه الماوردي من قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا خرج الإمام جلست الملائكة يستمعون الذكر ، ظاهرٌ كل الظهور وإن لم يستظهره الحافظ ، وعمل الأئمة المتتابع عبر العصور هو عدم التبكير للجمعة.
قال النووي في شرح المهذب: ومعلومٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بالزوال، وكذلك جميع الأئمة في جميع الأمصار وذلك بعد انقضاء الساعة السادسة. انتهى.
وقال ابن القيم في الهدي: وكان صلى الله عليه وسلم يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا اجتمعوا خرج إليهم، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم..انتهى
فإذا كان هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم وهدي الأئمة من بعده فالراجحُ إذاً هو القولُ بأن التبكير لا يُشرعُ للإمام، وأن أدلة التبكير إنما هي في حق المأموم، وانظر الفتوى رقم: 114445.
والله أعلم.